جواد مبروكي
التعليم هو بمثابة الثدي للرضيع والدولة بمثابة الأم. فماذا يقع للرضيع عندما تتخلى عنه الأم؟ هل الحليب الاصطناعي بمثابة حليب الأم؟ هل الطفل في حاجة إلى حنان الأم أم إلى الحليب فقط؟
الثدي هو الرابط الأول لعلاقة الرضيع بأمه وعبر الثدي تتقوى علاقة عاطفية وعلاقة الثقة والأمان بينهما. كذلك التعليم بالنسبة للطفل، فهو بمثابة الثدي، الرابط الأول لعلاقة "المواطن الناشئ" مع أمه "الدولة". وهذا الرابط الأول هو الذي يصنع نوعية العلاقة بين المواطن والدولة مستقبلا والتي يجب أن تكون علاقة طمأنينة وثقة.
عندما تتخلى الأم عن رضيعها وعلى الرغم من أنه يتغذى من ثدي امرأة أخرى، هل سيحقق في كِبره توازنا في شخصيته وهل ستكون له علاقة حب قوية مع أمه التي أنجبته أو حتى مع الأم الحاضنة؟ كل التجارب توضح أن الطفل المتخلى عنه يعاني من اضطراب عاطفي وعدم الاستقرار في علاقاته الاجتماعية ويعيش طول حياته "ضحية" في انتظار تعويض حب وحنان أمه!
نفس الشيء أراه عند المغربي بشكل مباشر أو غير مباشر بسبب خصخصة التعليم. وهنا أتحدث عن الرمز النفساني للتعليم الخاص عند الطفل المغربي ورمز الدولة كذلك في ذهنه.
للتوضيح يمكنكم اعتبار التعليم العمومي بمثابة الميتم أو دار الأيتام " للأطفال المتخلى عنهم" والتعليم الخاص بمثابة المنزل العائلي "الذي يحتفظ بأطفاله".
ماذا يقع في ذهن الطفل عندما يصل سن الوعي ويعلم أن هناك مدارس خاصة ومدارس عمومية؟ يضطرب داخليا ويشعر بالظلم وعدم المساواة وان هناك من هو قريب من أمه "المدرسة الخاصة " وهناك المتخلى عنه والموضوع بالميتم "المدرسة العمومية"!
والأخطر ما يعكس هذا على الطفل من فقدان الثقة والأمان وما يتسبب في علاقته بالدولة من نزاع (عن وعي وعن اللاوعي) عندما يرى أن الدولة "الأم" تميز بين الإخوة فتضع البعض منهم في الميتم "المدرسة العمومية" والآخرين تتركهم وسط عائلاتهم "المدرسة الخاصة". مثل أمٍّ تقرر التخلي عن طفل من أطفالها وتضعه بدار الأيتام وتحتفظ بالبقية، كيف ستكون تبعات هذه التفرقة سواء بالنسبة للطفل المتخلى عنه أو الطفل المحتفظ به؟ شيء واحد سيصاب به كل الإخوة: "فقدان الثقة في هذه الأم ونشوء علاقة مرضية نزاعية معها وبإمكانكم أن تتخيلوا كل ما سيترتب عن هذه العلاقة!
هذا ما يعيشه الطفل المغربي من اضطراب في ذهنه وشخصيته سواء كان في المدارس الخاصة أو العمومية. التفرقة بين الإخوة "المواطنين الناشئين" تخلق اضطرابا و خللا في علاقة المواطن بالدولة وبين المواطنين أنفسهم "الإخوة"، لأن الطفل المتخلى عنه (في المدرسة العمومية) يطرح دائما السؤال التالي "عْلاشْ أنا؟ وْ عْلاشْ خويا لِّبْقى مْعاهُمْ وْ مَشي أنا؟". ولكن حتى الطفل الذي يُحتفظ به (المدرسة الخاصة) يتساءل برعب "عْنْداكْ حْتى أنا يْرْمِوْني في الميتم (المدرسة العمومية)؟ وْ عْلاشْ حْرموني مْن خويا وْ فْرْقونا؟". وتلاحظون أن هذه أول أسئلة يطرحها الطفل وترون مدى انعكاساتها السلبية لاحقا على توازن شخصيته وعلى علاقته مع "الأم" أو "الدولة"!
أول شيء يؤلم الطفل ويكون سببا في اضطرابه ورفضه بكل قواه ويعبر عنه للآباء، هو الظلم الناتج عن التمييز بين الإخوة! وإذا كان هذا التمييز قائما فعلا فهذا هو سبب دمار شخصية الطفل سواء كان ضحية أم لا. كما يكون سببا في العلاقات النزاعية بين الإخوة والآباء. الشعور بالظلم والتمييز بين الإخوة من طرف الآباء، يكون سبب العنف عند الطفل وهو عنف دفاعي حيواني يظهر عندما ينعدم الأمان والثقة.
نرى في عدة عائلات أبناء يعنفون الآباء لفظيا ومعنويا عندما يشعرون بالتمييز العاطفي بين الإخوة من طرف آبائهم. ما زلت اسمع مراهقين وراشدين يعانون من هذا التمييز ويعبرون عنه بهذه الجمل "مافْهْمْتْشْ عْلاشْ الوالِدَة تْفْضّْلْ خُّوتي عْلِيَّ وْ نْديرْلْها لِدْرْتْلْها كاعْ مَتْعْطِنِي قيمة"! أليس نفس العنف الذي ترونه في المدارس العمومية ضد الأستاذ وضد المدرسة؟ أليس نفس العنف الذي ترونه في المجتمع بين الإخوة "المواطنين"؟
فأي "قيمة" يشعر بها الطفل المغربي المُتخلى عنه في المدارس العمومية "الميتم"؟ وأي عدل يشعر به الطفل المُحتفظ به في المدارس الخاصة "البيت العائلي"؟ فأي مواطن نُكَوِّن؟ فأي نوع من علاقة المواطن بالدولة نصنع؟ فأي اتساق وانسجام وسِلم وأمان وثقة وتقدم نريد أن يصل إليه مجتمعنا إذا كان التمييز والتفرقة والتخلي عن هذا في "الميتم أو المدرسة العمومية" والاحتفاظ بهذا في "البيت العائلي أو المدرسة الخاصة"؟