عبد الفتاح عالمي
لم تنفع دروس اللغة العربية في تقريب الأدب إليّ أيام المرحلة الثانوية، كنت أكرهها أكثر مما ينبغي رغمَ أنني أخربش خارج الفصل نصوصا أطلق عليها اسم "الهلوسات" في الوقت الذي كنت أظنها توازي شذرات نيتشه قوّة وشقاءً. أذكر أنه في يوم كان المطلوب أن نكتب نصّاً إنشائياً من نصف صفحة، وكان الموضوع مشوّقاً بحيث أن تقييده في بضعة سطور ذابلة كانَ جريمة أخلاقية بحق اللغة العربية والأدب مجتمعاً. كتبته في صفحتين ونصف، لم تكن تهمّني النقاط التي يجودون بها علينا لأنني لم أعترف يوماً بشرعيتها في تقييم العقول، لذلك أستغل حصص الإنشاء والتعبير كي أخرج ما لا أستطيع إخراجه في بقية الحصص التي تشبه السّجن الجماعي. كنت أعلم أن على المتمرّد أن يتحمل تبِعات أفعاله، لذلك لم أنتظر إعجاباً بنصّي الذي دافعت فيه، كما لو أنني في محكمة دولية حقيقية، عن واجب الدول العربية في التسلح بمواردها الخاصة دون اللجوء للاستيراد من الغرب العجوز ! نهاية النّص كانت سلة المهملات لأنه كان بالطبع مخلّا بقانون الحصة. لكن لم أكترث، فقد كتبت نسخة عنه في كرّاستي تحسّباً لأي حكم بالإعدام. وكل ذلك في سبيل الإحساس الغريب كلّما وضعت القلم وتنفّست الصّعداء وكأنني كنت في معركة وخرجت منتصراً ! علاقتي مع اللغة الفرنسية لم تكن جيّدة كما يجب، كنت بالكاد أستطيع تكوين جملة بسيطة ومفهومة مع بعض الجُهد، وكنت أشعر دائماً بأن هناك أشياء لا تسير كما يجب. اهتمامي بالمواد الأدبية كان يفوق الحدود، رغم انتمائي لطبقة البؤساء الذين يجب أن يقضوا كامل وقتهم في البرهنة على العبارات والمبرهنات الرياضية ودراسة حركات القذائف الجوية والطائرات والكواكب إن أرادوا الحقّ في مستقبل زاهر، وهذا في حد ذاته كان تمرّداً ثمنه أغلى بكثير من سابقه. أغرمت بكلّ تلك المواد التي كنت أكرهها على مقاعد الدراسة حين بدأت الغوص فيها وحدي، فأصبحت أقرأ روايات كاملة بالفرنسية وأترجم النّصوص، و أصبحت أنافس "كافكا" على عشقه للأدب حين أردّد مقولته "لا كينونة لي خارج الأدب" وكأن كلّ ما له علاقة بالروايات والأفكار كان بحراً وأنا كنتُ السّمكة التي تم إطلاقها. لو كان التعليم يصنع المستقبل الحقيقي للإنسان لكنّا جميعاً نسخاً متشابهة، لكن هناك شيء يدعى اللمسة الشخصية، وهي خلطة تجمع بين تجارب شخصية وعوامل خارجية وسيكولوجيا فردية لكي تصنع منك الكائن المنفرد الذي لا يتبع الطّرق الكلاسيكية المؤدية إلى مكتب تقضي فيه بقية حياتك، بل الذي يفكّر في وظيفة غريبة حين يتعب منها يستقيل ويشتري بعض الفراخ ليسهر على تربيتها وتعليمها عُصارة الأدب الرّوسي والحكمة الإغريقية ثم ينام وهو يشعر بأنه يساهم في بناء تاريخ الكون وليس في رفع رقم مبيعات شركة ليست له.