طارق بوستا
كثيرا ما توصم الأفكار والمشاريع التجديدية بالغرابة ونوع من الاستهجان حين تنثر بحللها المتجددة في وسط مكبل بسلاسل من التقليد المرصعة بنمطية أصيلة، يصعب معها فكاك الفكر الجمعي من عقالها، حيث اغتصب وعي الأمة على نمط معين من الأفكار المستوردة ودجن على أشكال وقوالب شبه جاهزة، للوسائل والآليات التنفيذية التي تكرس عجزنا ولا تخدم فعاليتنا المفترضة، والتي تقتل فينا مساحات الإمكان وتجهض فينا خيالات الإبداع، ولا تسعى للانعتاق من منطق التقادم الذي يطال الأفكار، وكأن تعاقب الأيام وما استجد من وسائل وآليات وما تغير في منطق الآخر الذي يحرص على تجديد وسائله لا يفقد السائد من الأفكار الفرعية قيمتها؟ في حين أن "النماذج التي بنيناها من قبل تصاب بالتقادم، وتفقد الكثير من فعاليتها وملاءمتها، لكن معظم الناس لا يملكون الشفافية للإحساس بذلك التقادم مما يجعلهم يتمسكون بها، ويصرون عليها، فتتحول بين أيديهم من أدوات نمو وإنجاز إلى أدوات تخلف وانغلاق على الذات."1
ومن القضايا المستوردة التي طغى عليها التنميط وتشكلت في قوالب من التقليد المركب، هو ما يصطلح عليه بالعمل الجمعوي، وهي كلمة اختزلت إلى حد الإخلال بمعانيها الأصيلة، بل وأضحت ذات حمولة معرفية وقيمية قاصرة عن إدراك ذاتها، ومنفصلة عن التصورات المبدئية المؤسسة للكلمة وبين ما هو كائن وما ينبغي أن يكون. حتى غدا الفعل والفاعل الجمعوي رهين ممارسة ميدانية مسيجة بتقاليد وأعراف جمعوية متكررة، في وسائل الاشتغال وآلياته ومجالات العمل وفضاءاته، وفي الأهداف المؤطرة التي تكاد تكون متكررة في منطق جمعيات المجتمع المدني، والتي تفصل في منطق اشتغالها بين ما هو اجتماعي وسياسي، منزوية بذلك عن الشأن العام، بمفهومه التدافعي الحركي النضالي، ومقتصرة على المجالات الاجتماعية والخيرية والثقافية التي تتبرأ من السياسة وقضاياها المتداخلة. وهو
ما يتطلب إعادة التفكير في مجتمعنا المدني العربي الذي تم اختزاله في منظمات غير حكومية ميزتها الأساسية "الاسترخاء خارج السياسة وإدارة الظهر للعملية السياسية".2
لاشك أن الولادة القصرية لمنظومة المجتمع المدني بجمعياته ومنظماته غير الحكومية بوطننا العربي والاسلامي التي أملتها المخططات الاقتصادية الاستعمارية والمشاريع الانمائية الغربية المفروضة بعد الحرب العالمية الثانية، وبرامج الأمم المتحدة التي تروم ضبط خارطة الاحتياجات المتوالدة بدول العالم الثالث وتكريسها، كان لها دور أساس في إنشاء وتأسيس فضاء ما يسمى بالمجتمع المدني على نمط لا يخدم الاحتياجات الحقيقية لدول أريد لها أن تبقى تابعة لنظام دولي مسيطر. فقد برز قطاع العمل الجمعوي على أنقاض ما كان موجودا من تجارب جمعوية أصيلة، نابعة من صميم الاحتياجات المرحلية لمجتمعات تقليدية، ذاقت نشوة استقلال بعد استعمار، واستشعرت الولاء للذات الوطنية، سليلة أمة مقسمة ومجروحة. غير أن سياق الهيمنة الغربية المفروضة أجهضت النشأة السليمة المفترضة لقطاع العمل الجمعوي، واخترقت المنظومة الثقافية والفكرية بجينات من العلمنة، التي أجبرت العقل العربي والاسلامي على الفصل النكد في نظرية المجتمع المدني نظريا ثم عمليا، بين ما هو ديني في تجلياته الاجتماعية والتضامنية والخيرية وبين ما هو سياسي تدافعي نضالي. مما أنشأ لنا قطاعا جمعويا مشوها بحلته الحالية، المنتحلة للتجربة الغربية، وبطابعه الاستعراضي والخيري، والذي زكته أنظمة عربية تابعة للخارج، محكومة ومقيدة برؤى وقوانين دولية مفروضة، وبإملاءات خارجية.
كان نصيب المجتمع المدني والعمل الجمعوي وافرا في استجابته للإملاءات الخارجية ، وفي تبنيه وتقمصه وتنزيله للنموذج الأوحد المستورد، إلا أن العامل الذاتي الداخلي المتمثل في قابلية الدول العربية والإسلامية " للبقاء في تخلفها، وعجزها عن التحرر من أسباب الاستبداد، والاضطراب، والظلم الاجتماعي، والبلادة الفكرية، والسلبية في ميادين العلوم، والتنظيم، والانتاج، والحكم، والإدارة"3. يبقى حاسما في توليد التخاذل، وفي والانكماش على الذات والانطواء على مثالب قرون العض والجبر المنحوتة في ذات ووعي الأمة.
دول متخلفة منهكة، دون حصون حامية لخصائصها الثقافية والحضارية والقيمية، وبقابلية للاستعمار على يد من له " سلطة خفية على توجيه الطاقة الاجتماعية عندنا، وتبديدها وتشتيتها على أيدينا"4، إلى أن تمَثلنا أفكار الغالب وتقمصنا روحها في مناهجنا التربوية والتعليمية والثقافية، بل وتشرُّبها، إلى حد تبني مقاربات ورؤى في ثقافة العمل الجمعوي وفي فلسفة المجتمع المدني، تكاد تكون مختزلة فقط في فن التنشيط والاستعراض وفي الأعمال الخيرية الموسمية والانتقائية، وفي التنفيس عن
الأنظمة الحاكمة وسياساتها التفقيرية وفي تسويق ثقافة الاستهلاك التي تتبنى مقاربات الكم عوض الكيف، وإن بدت على شكل برامج وأنشطة اجتماعية وثقافية وخيرية تغري استحساننا لكل ما هو خير، دون دراية منا أن لانعدام رؤية مقاصدية للعمل الجمعوي وبعده الغائي في البرامج والأنشطة والمشاريع الجمعوية يجعل من العمل الجمعوي برمته جهدا ومساهمة وفعلا دون أية قيمة اعتبارية في سلم البناء وميزان التغيير، بل ويغدو آلية لكبح مسار النهوض المفترض، عوض أن يكون أداة تحررية من عوالق الاستبداد والفساد، ووسيلة نميط بها مخلفات الأفكار الميتة في عقول الناس وما ران على قلوبهم من أنانية وتخاذل وقنوط.
وللأسف لم يهتم الباحثون وأهل التخصص في موضوعات المجتمع المدني والعمل الجمعوي بأدواره التغييرية وارتباطاته المفترضة بمسار نهوض الأمة الاسلامية وتألقها، وبأبعاده السياسية والتدافعية التي تنمي في المجتمعات حس النقد والمشاركة الإيجابية في الحياة العامة، بل عوض ذلك، تم التركيز على الأبعاد الخيرية والاجتماعية والتنموية، وفي شقه التقني فقط، التي تحاكي واقعا مستعصيا تجعل مؤسسات المجتمع المدني برمتها تدور في حلقة مفرغة من البرامج والمخططات التي زاغت بوصلتها عن لب الداء، وفي معزل عن المقاربة الشمولية في معالجة قضايا الأمة الأساسية وأزماتها الراهنة. مثقفون وباحثون وأكاديميون!!! لكنهم مقلدون، ولجنايتهم الفكرية والتنظيرية والعملية أثر بليغ على واقع ومآل العمل الجمعوي بدول العالم الثالث، لما يصدر عنهم من أفكار داعمة للنسق الفكري المقلد، ومن ممارسات جمعوية تزكي ما هو موجود، خيانة لقضايا المجتمع الحقيقية أو اغترابا تدعمه دائرة صماء مستعلية5. ولا غرابة من ذلك، فما نتاجهم الفكري وإسهاماتهم الثقافية إلا "غلة لما زرعه الغرب من بذور بشرية بين ظهرانينا، والآلاف المؤلفة من أجيال المغربين الذين لفظتهم معامل التفريخ الجامعي في كليات الفلسفة منذ ثلاثة أجيال ما هم إلا نسخ منقحة لتلك النماذج الصماء."6
قد لا نستغرب لواقع الغثائية الذي ينخر كيان وصلب المجتمع المدني بمؤسساته المتنافرة وجمعياته التائهة، دون بوصلة، والسائرة دون أية وجهة، والتي لا تتقن إلا تنزيل البرامج والمخططات التي تنحو في الغالب إلى الخدمة الاجتماعية والأعمال الخيرية الإحسانية، بشكل آلي، والتي يفرضها واقع سياسي مخترق ومستعصي. فيخال للجمعيات المشتغلة في الميدان والصادقة منها، أن هذه البرامج والمخططات إنما هي وليدة لقرارها وثمرة لاجتماع أعضائها، حتى يبث فيهم ذلك باعثا لمزيد من الجهد والعمل. في حين أن هذه الجمعيات وهؤلاء الفاعلين الجمعويين لا يدركون أن الإطار الذي يظم حراكهم ويجمع تفاعلهم ونشاطهم إنما هو إطار موجه، تسكنه روح مبرمجة على التدجين والاحتواء، تفرض
على كل جمعية جديدة مسارا مقبولا من الفعل المجتمعي المهادن للسلطة والمنزوي عن الشأن العام، والمتبرئ حتى من نعت رواد الجمعيات بالمناضلين، لما للتسمية من إيحاءات الجندية التي يخشى أن يتطبع الناس مع مرور الأيام بخصالها. تدجين واحتواء، سيج فعل جمعيات المجتمع المدني وقيد عملها وأنشطتها برؤية يفرضها نسق الأفكار الحاكمة، مع ترك مساحات من الاستقلالية لهذه الجمعيات حتى تنمى الذاتية اللازمة للاستمرار في تنفيذ مخططات الاستبداد.
لكن... ما بال الجمعيات الحاملة للمشاريع التغييرية، المتطلعة لما بعد بؤس الواقع المتأزم، والمستشرفة إلى غد التمكين، المستبشرة بأفق الكرامة والحرية والعدالة الاجتماعية، ما بالها تنساق هوينا هوينا في خضم سياق آخر ومنهج آخر!!؟ سياق سالب غالب، لا يخدم مشروع التغيير المأمول ولا يفتل في منطق البناء والإحياء الذي يعد منهجا تغييريا قاصدا. يقول الأستاذ عبد السلام ياسين رحمه الله مخاطبا الساعي في المجتمع، الحامل لمشروع التغيير، فردا كان أو مؤسسة "يجب أن تكون الجنديةُ وتحفُّزُها كلمةَ الساعة، ومطمَحَ النشيط، ومَنْشَطَ الكاسل، ومُقِيم القاعد، وحامِلَ الكَلِّ إلى جلائل الأعمال. هذا وظيفها الحركيُّ التربوي المُنَشط، ووظيفُها الغائيُّ حشد جهود السواد الأعظم لإنجاز مهمات البناء، للإنتاج، للتغيير، بالعمل الدؤوب المُصِرُّ. جندية جهاد، لا جندية لعب واستعراض. وإن كان الاستعراض في حد ذاته دعوة بالمثال لا تُعَوَّضُ"7
" جندية جهاد، لا جندية لعب واستعراض". حكمة نسترشد بها كلما هجمت علينا مداخل التغيير في المجتمع وتكاثفت بين يدي الجمعيات ومنظمات المجتمع المدني الوسائل، تطبق على تفكيرنا بكلكلها الناصع الذي يغري نهم صدقنا ورغبتنا في العمل الخارجي المجتمعي، بعد أن غدى العمل في الميدان مبتغا لذاته وحضور الجمعيات في المجتمع غاية مستقلة عن القصد الجامع، فلا يُسأل بعد ذلك عن أثر هذه الجمعيات وعن أدوارها وأولوياتها ومآلات مشاريعها، والأهم من ذلك هو وعيها الذاتي بموقعها من سلم الوسائل الناجزة الكفيلة بتحقيق الأهداف والمقاصد الكبرى، أهو أمر حاصل ناجز، أم أن غواية الاستعراض حالت دون ذلك؟