يحي طربي
يذهب بعض الكتاب و الصحفيين و المفكرين و الأكاديميين الفرنسيين و المغاربيين و الأفارقة، من ذوي الخبرة و الإطلاع الكافي على الأوضاع السياسية و الاقتصادية و الاجتماعية و الثقافية و الحقوقية في البلدان التي ينتمون إليها، يذهبون إلى القول، في كتبهم و مقالاتهم الصحفية و على شبكة " يوتيوب " و مواقع التواصل الاجتماعي و خلال الندوات و المناقشات التليفزيونية، و بعد سنوات طويلة من الملاحظة الدقيقة و البحث الميداني المعمق و تقصي الحقائق، أن فرنسا، بلاد الأنوار و الثورات، و التي تعتبر نفسها بلدا يدافع بقوة و حماس عن الحريات و حقوق الإنسان، و يدعو إلى المساواة وإقرار سلطة و سيادة الشعوب، و يضمن الإنتقال الديموقراط فيي في دول العالم الثالث و السائرة في طريق النمو، لا تعمل في الحقيقه و الواقع إلا على حماية و مساندة الطغاة و الديكتاتوريين و الأنظمة التوتاليتارية التي أرست قواعدها في مستعمراتها القديمة.
على ضوء ما يجري على أرض الواقع، و بعد فحص المعطيات و التدقيق فيما سبق ذكره، سيتسنى للقارئ التأكد أو عدم التأكد مما قيل في هذا الصدد.
إن الدارس و المتتبع للعلاقات التاريخية و الثقافية و الدبلوماسية و الاقتصادية التي تربط فرنسا بدول المغرب العربي و دول الخليج و بعض الدول الإفريقية، يكتشف أن فرنسا ليست دولة إمبريالية و أنانية فحسب، و إنما أيضا متواطئة مع حكام و رؤساء هذه الدول، الذين لا يحترمون مواطنيهم، حيث أن الدولة الفرنسية لا تكتفي فقط بدعم و مساندة هؤلاء الطغاة معنويا و لوجيستيكيا و حمايتهم من كل مكروه؛ إذ توفر لهم كل وسائل الراحة و المتعة و تمنحهم و عائلاتهم و وزرائهم أوراق الإقامة و الجنسية و الدكتوراه الفخرية و مزايا أخرى، بالرغم من اضطهادهم لشعوبهم، و ذلك حفاظا على مصالحها بالمنطقة، بل توفر لهم كل الظروف و التسهيلات لاستثمار أموالهم و ثرواتهم على أراضيها، ما يشجع هؤلاء على نهب الأموال العامة و الخيرات الوطنية لشعوبهم؛ كما يفعل، مثلا، وزراء و جنيرالات الجزائر، الذين يعملون على اختلاس الملايير من أموال الشعب و ميزانية الدولة و تهريبها إلى فرنسا و الذين، كلما تجرأ المعارض و الناشط الحقوقي رشيد نݣاز على فضحهم و فضح الثروات و الممتلكات العقارية التي راكموها في باريس و غيرها بطريقه غير شرعية، إلا و اتهموه ب " الحركي " و الخائن، و عرضوه للتعنيف و الضرب و الجرح بوحشية، على يد بلطجية و جواسيس النظام الجزائري، الذين يعيشون و يصولون و يجولون في فرنسا على حساب دافعي الضرائب من المواطنين الجزائريين.
بينما المثير للضحك و الإستغراب هنا، هو أن الجمارك و شرطة الحدود الفرنسية في الموانئ و المطارات، يجبرون " صغار " و بسطاء السياح من أبناء الشعوب العربية على التصريح بالمبالغ المالية الزهيدة التي بحوزتهم و التي بالكاد تكفيهم لتغطية شهر أو شهرين من إقامتهم هناك، في حين أن الحكومة الفرنسية لا تكلف نفسها عناء البحث و التحري حول أصل و مصدر الأموال الطائلة و العملة الصعبة التي تصرف و تستثمر هناك من طرف الرؤساء العرب و أمراء الخليج و أسرهم؛ كي يتبين للمسؤولين الفرنسيين أنها ثروات و خيرات الشعوب العربية المقهورة، تَمَّ نهبها و اختلاسها و تحويلها و تهريبها إلى فرنسا و جاراتها، و لو أنهم على علم بهذه الجرائم.
كما أنه لا يخفى على مسؤولي فرنسا السياسيين تورط بعض الحكام العرب و وزرائهم و برلمانييهم و رؤساء أحزابهم، بطريقة أو بأخرى، في شبكات الإتجار الدولي في المخدرات و الدعارة و الرشوة و الشطط في استعمال السلطة و استغلال الثقة و جرائم أخرى؛ إذ يكفي أن يقوم المرء بجولة في إحدى المدن الفرنسية الكبرى ليرى بأم عينه أبناء الجالية العربية، في المقاهي و الحدائق العمومية و على أرصفة الشوارع، يروجون المخدرات بين المراهقين و الشبان الفرنسيين و الأوروبيين، أمام أعين الشرطة و كاميرات المراقبة، إلى درجة أن الفرنسيين أصبحوا يحتلون المراتب الأولى عالميا فيما يخص استهلاك الحشيش القادم من دول شمال إفريقيا و الشرق الأوسط.
هكذا، إذاً، يجد " القادة " العرب و وزرائهم و كذا أباطرة المخدرات، يجدون في فرنسا الأرض الخصبة و المكان المناسب لتبييض الأموال " القذرة "، بتحويلها إلى عقارات، أو أسهم و سندات تُتَداول في الأبناك و الشركات و البرصات، كي تدر عليهم أرباحا إضافية يۡؤَمنون بها حياتهم و يحصنون بها أنفسهم ضد المتابعات القضائية و يشترون بها السلط و المناصب، و يستعبدون بها الناس، و يزورون بها الانتخابات، و يعرقلون بها المسار الديمقراطي.
من جهة أخرى، عوض أن تقاطع الحكومات الفرنسية المتعاقبة الأنظمة العربية الديكتاتورية و تمارس ضغوطاتها على الحكام العرب، كي ينهجوا في حكمهم نظاما ديمقراطيا بمواصفات عالمية، تُحتَرم فيه الحريات و حقوق الإنسان، و عوض أن تنخرط بقوة في التنمية البشرية، تعمل على تشجيع الشباب العربي، الذي يمثل أزيد من 65٪ من السكان، على الهجرة السرية، بتسوية و ضعيتهم و منح حق اللجوء للمعارضين السياسيين و المضطهدين من طرف الأنظمة الأوليغارشية العربية.
وكلما تجرأ صحافي حر نزيه على فضح الوجه الحقيقي للحكام العرب و نقد أنظمتهم و حكوماتهم، أو خرج مجموعة من المناضلين للمطالبة بالحرية و الكرامة و العدالة الاجتماعية، إلا و تعرض هؤلاء أو ذاك للقمع الهمجي و الاعتقال و السجن، في حين تكتفي فرنسا بالملاحظة و التتبع، عوض التنديد بهذه الخروقات و الانتهاكات و التجاوزات الخطيرة؛ عوض التدخل بطرقها الخاصة من أجل وضع حد لهذه الممارسات التي تعيق الإنتقال الديموقراطي الحقيقي الذي تطالب به في الدول العربية؛ و ترفض القيام بذلك مخافة أن تغضب حلفائها في الدول العربية و الإفريقية.
فبفضل فرنسا و مساندتها و تزكيتها للأنظمة الشمولية العربية، يستمر الديكتاتوريون في الحكم، ضدا على إرادة الشعوب، في حين تستمر فرنسا، بدورها، في الغنى و الازدهار على حساب الخيرات و الثروات المسلوبة من الشعوب العربية.
و إذا صح ما يصرح به المتتبعون للسياسة الإمبريالية الفرنسية، فقد صارت فرنسا الوجهة المفضلة للديكتاتوريين و مبيضي الأموال العرب، بعد أن كانت قبلة للمفكرين و رجال العلم و المعرفة. و من تم التناقض الكبير و المفارقة الشاسعة بين ما تتطلع إليه الشعوب العربية و ما تقوم به الدبلوماسية الفرنسية في المنطقة.
و هكذا تكون " ماما " فرنسا قد أخلفت و عدها و خانت أبنائها و رعاياها الذين وعدتهم، في مستعمراتها، بالديمقراطيۃ و المساواة و التقدم و الإزدهار .