الصادق بنعلال
1 - يصدر صاحب هذه المقالة عن وعي إنساني منفتح ، يؤمن بقيم التعددية و الاختلاف و النسبية إيمانا وجوديا ، و ينطلق قبل و بعد و أثناء مساءلة مفردات الكون و الإنسان و المجتمع ، من مسلمات تستحضر محرقيا المبادئ و المواثيق و القوانين المتعارف عليها دوليا ، كل ذلك في انسجام هيكلي مع جوهر الرسالات الدينية التي جاءت مبتدأ و خبرا ، لخدمة الإنسان و صون كينونته . و لعل السبب الرئيسي وراء هذه " الإضاءة " هو ما تمور به الساحة الإعلامية و الثقافية العربية من " نقاش " حول راهن و مآل الوضع السياسي و الثقافي و السوسيو اقتصادي بعد حلم عربي مجهض .
2 - فمنذ حصول معظم الأقطار العربية على " الاستقلال " و الشعوب تعيش بين مطرقة الاستبداد و سندان الفساد ، و بعد أن تدفقت مياه غزيرة تحت جسر " الأمة العربية " المثخنة بالجراح و الهزائم العسكرية و الحضارية ، و بعد أن وصل اليأس مبلغه ، و تساءل المثقفون و الشعراء عن ( متى يعلنون عن موت العرب ) ، زلزلت الأرض العربية بضراوة ، و انطلق الحراك الشبابي قبل سبع سنوات و بشكل غير مسبوق ، يغزو ساحات التحرير و يملأ شوارع التغيير ، مناديا بكل ما يملك من قوة دفينة بإسقاط الفساد و الاستبداد ، و السعي إلى بلورة واقع عربي آخر يحتفي بقيم الكرامة و المساواة و الحرية و العدالة ..
3 - و لئن كانت تضحيات الشعوب العربية الجسيمة تمكنت من إسقاط " زعماء " في القهر و الجبروت ، و " الانتقال " إلى أجرأة الحلم الديمقراطي بتنظيم انتخابات رئاسية و برلمانية ، و " التوافق " على صياغة دساتير " جديدة " ، إلا أن الدولة العميقة ( الفلول و الجيش و الإعلام و شبكة المصالح الحيوية .. ) في مختلف أقطار ما أضحى يدعى بالربيع العربي ، صارعت حتى الرمق الأخير من أجل الانقلاب على الإرادة الشعبية ، و الدوس على الشرعية الدستورية ، مباشرة في مصر و غير مباشرة في " دول " أخرى ، لا لشيء إلا لأن صناديق الاستحقاقات جاءت بما لا تشتهيه سفن القوى الديمقراطية " الوطنية " ، من قوميين و اشتراكيين و لبيراليين .. حيث اختارت الشعوب التيارات الإسلامية المعتدلة كرهان على الانعتاق من التخلف و العمل على بناء نسق سياسي قد يكون طوق نجاة نحو ضفة الأمان .
4 - و عوض أن تعترف بالواقع الجديد ، و تساهم بحماس في الانتقال الديمقراطي السلس ، فضلت تيارات الحداثة و الليبرالية أن تقف إلى جانب مغتصبي الديمقراطية ، و تقلب الطاولة على إرادة الشعوب ، و هي التي ملأت الدنيا و شغلت الناس ، عقودا من السنين تفسر بإسهاب فضائل التجارب الديمقراطية الكونية ، و أدوارها في الرقي بالدول في مجالات التنمية الشاملة ، و عوض أن تترك خصمها السياسي ( الوافد الجديد ) على ممارسة السلطة و مراقبته و محاسبته أثناء و بعد انتهاء عهدته القانونية ، و الدفع قدما بتجديد النخب ، و ضخ دماء جديدة في الجسد السياسي العربي المنهك و الفاقد للصلاحية ، أبت إلا أن تصعد الجبل و تعود بنا القهقرى إلى زمن مثخن بالجراح ! معربة عن رفضها الخرافي لقاعدة التداول السلمي على السلطة ، في إطار منافسة سياسية حرة و نزيهة .
5 - إن الحداثة التي اطلعنا عليها بهدوء و تمعن في أدبيات الفكر السياسي و الفلسفي العالمي ، موقف إنساني نبيل من الوجود و الإنسان ، و رسالة في اتجاه التجديد و التغيير نحو الأرقى ، و تطوير الآليات الذهنية و الشعورية ، من أجل الذود عن حرمة هذا الإنسان ، في مناخ حافل بأبجديات ثقافة الاختلاف و التنوع و التسامح و الاعتراف بالآخر ، بعيدا عن نزعات الإقصاء و الاستئصال ، و التحريض ضد القيم المجتمعية و الحضارية للوطن و الأمة . و يبدو أن " الحداثة " العربية و في غمرة الهجوم غير الأخلاقي على خصمها السياسي المتمثل في الإسلام السياسي المعتدل ، و خوفا من انهزامها الدرامتيكي أمام الهياكل السياسية الجديدة ، قد انقلبت من حيث تدري أو لا تدري إلى ( لاحداثة ) شعارها المتهافت : أنا أو لا أحد ! و عزاؤنا في بعض الأصوات الحداثية الشريفة ، في إعادة اللحمة للفصائل العربية العلمانية و الإسلامية ، و المؤمنة بالديمقراطية ، كاختيار استراتيجي محوري ، من أجل بلورة ممكنات عربية أرقى و أفيد !