عبد الرحيم هريوى
خلال العقود الأخيرة بدأ المجتمع المغربي يعرف ظاهرة العزوف السياسي من طرف الشباب بصفة خاصة، وكذلك بالنسبة للطبقة المتوسطة عامة. هذه الأخيرة وحسب تعريف عالم الاجتماع الألماني " ماكس فيبر" تأتي اقتصادياً و اجتماعياً بين الطبقة العاملة والطبقة الغنية، كما أن للطبقة المتوسطة عدة أدوار ومهام تتطلع بها و تساهم من خلالها في الانتقال الديمقراطي في الدولة الحديثة ، كما أنها تعتبر القلب النابض للحياة الثقافية والاقتصادية والسياسية للدولة الحديثة،لأنها تتكون من رجال الفكر والموظفين والمثقفين والعمال والأطباء والمهندسين والأساتذة، وكلما تقوت الطبقة الوسطى في الهرم الاجتماعي كلما كان لقوتها مفعوله السحري في التماسك الاجتماعي، وتجنب القلاقل والاضطرابات الاجتماعية، إذ أنها عادة ما تساهم في امتصاص كل الشوائب وما يضر الجسم الاجتماعي برمته. لأنها عادة ما تطمح للرقي في السلم الاجتماعي والحفاظ على مكانتها الوسطى بتهدئة الأوضاع بالطبقة السفلى والدونية في الهرم الاجتماعي ..
لكن في غيابها أو تقلصها تزداد المتاعب للمجتمع، وتطفو على السطح الاصطدامات والاضطرابات والصراعات الاجتماعية.. وقد يظهر ذلك جليا بين الطبقات والنخب الاجتماعية ،أو ما يسمى بالصراع الطبقي بحيث نجد أن الطبقة الغنية و الثرية تدافع عن مصالحها بشتى الوسائل والطرق، والخطير فيما هاهنا لما يقع ذلك الزاوج الكاثوليكي بين عالمي المال والسياسة وتصبح السلطة في خدمة الثروة ، وعادة ما يفكر أصحاب المال في الطبقة الهشة والفقيرة سوى كسوق استهلاكية كبرى ويد عاملة رخيصة ، في غياب دولة المؤسسات التي تجعل مواطنيها في مركز كل اهتماماتها الاستراتيجية ساعية من طرفها في تلبية حاجياتهم وحقوقهم الاجتماعية و الاقتصادية..!!
وكلما هيمنت الطبقة البرجوازية وصار لها موضع قدم في المؤسسات الدستورية والتشريعية للدولة كلما ازدادت الهوة اتساعا في الهرم الاجتماعي بين الأغنياء والفقراء.ولعل ذاك ما أمسينا نلامسه ، لقد ازداد الفقير فقرا والغني غنى وانتقلت الطبقة المتوسطة بالأمس لتحط الرحال بالطبقة الهشة والضعيفة وثم تضييق الخناق حولها ، مما خلق ذلك اللاتوازن في الهرم الاجتماعي. وأصبحنا بين طبقة
غنية وثرية وأخرى ضعيفة فقيرة هشة ، تواجه متطلبات الحياة الأساسية ، بلغة الإضرابات والمسيرات والاحتجاجات والوقفات..و كما نراه ونشاهده بأكثر من محطة خلال هذين العقدين الأخيرين، وذلك مرده بالطبع لجملة من القرارات اللاشعبية للحكومة الأولى والثانية بأغلبية حزب العدالة والتنمية. وما عرفه الشارع المغربي من غليان وتصعيد و تطاحن مستمر ودائم، و لما أمسى يعيشه المواطن المغربي العادي والمتوسط والبسيط من ضغط قوي على جيبه وادخاره الأسري، وتزايد طابور البطالة ودخول قانون التشغيل بالعقدة وارتفاع تكلفة الحياة..
وما يمكن أن نستشفه أيضا من الواقع السياسي المغربي الحالي، هو العزوف الكلي من عالم السياسة وما يحيط بها وذلك لعدة أسباب واضحة وجلية ..إذ أصبح الشباب مناصفة لا ثقة لهم تذكر في هؤلاء الساسة والسياسيين، لأن أجندتهم ليست مع الطبقات الاجتماعية السفلى و المتوسطة ومشاغل الشباب وتلبية طموحاتهم في الحياة الكريمة والشغل القار..بل لا تخرج عن نطاق ماهو مناسباتي و شخصي ومصلحي و ريعي..ومقراتهم على الدوام مغلقة ولا تفتح إلا للضرورة القصوى أو لحدث طاريء أو عند حلول الموسم الانتخابي بالطبع لجني الثمار المرجوة بأي وسيلة كانت ، سواء من خلال الخطابات والتجمعات الحزبية أو الزيارات الميدانية التفقدية والرمزية للزعامات الحزبية في المواسم والأسواق والمداشر(شرب الحريرة ..شرب البيصرة..التقاط صورة مع فقير مغربي يمتطي دابة ..الجلوس في قيطون(خيمة بلغة المدرسة) يعني ها نحن قد نزلنا عندكم من برجنا العالي و تواضعنا كأبناء الشعب ونحن اليوم ندمنا وجئنا لنصل معكم الرحم ونبلغكم برنامجنا الانتخابي..إذن لا يخرج ذلك عن نطاق ما يسميها البعض باللعبة السياسية والأحزاب بالدكاكين، لأنها لا تفتح كلها الأبواب صباحا ومساء ،وتنشط فيها الحركة إلا خلال هذه الحملة القصيرة جدا، وغيرها من البهرجة والسيرك وينتهي كل شيء مع انتهاء ليلة الحملة نفسها…!!
ولا تخرج هذه الحملات عن أهداف مرسومة و واضحة وجلية هي استمالة الناخبين والناخبات من جديد، لملء الصناديق بأكبر عدد من الأصوات، وكأن هؤلاء لا يفهمون أي شيء في عالم السياسة و مصايدها وخطط أصحابها الظاهرة منها والخفية. ونحن نعيش اللعبة السياسية بكل أطوارها..!!
فالشباب اليوم؛ أمسى يعيش عزوفا غير مسبوق ، ولربما لا رجعة فيه سواء اتجاه النقابات أو الأحزاب السياسية بأغلبيتها و معارضتها وما يدور في فلكها..لقد فقدوا الثقة في يسار الأمس لأنه ظل يطبل ويعزف على وتر البديل الديمقراطي الجديد. والحياة السياسية الجديدة ودولة المؤسسات واستقلاليتها ومحاربة الفساد والجهل وتطوير الإدارة والجودة في قطاعي الصحة والتعليم...لكنه ظل كل ذلك نوع من الدوغمائية السياسية ولا يخرج عن نطاق الدعاية السياسية بعد وصولهم للحكم تمت خوصصة أكثر من قطاع وغاب أولئك الزعماء التاريخيين الذين ظلوا يحملون المسؤولية لأكثر من جهة من الدولة، وبعدها صاروا في نفس الطريق القديم، وأمسوا من أصحاب المشاريع والشركات وغابت المبادئ والدفاع عن القضايا الاجتماعية والشعبية، وظهرت نية الدفاع عن الكراسي والمكتسبات الشخصية وحرب المواقع في القيادات الحزبية ومكاتبه وأمست السياسة تعرف بوجوهها وأسمائها التقليدية المعروفة ،والتي لا يمكن زحزحتها قيد أنملة عن كل القرارات.. ولا حركة ولا سكون في الأحزاب إلا بإذنها ومن كان له رأي مخالف لا يسمع إلا (أرض الله واسعة..والباب أوسع من كتافك..)
وغابت السياسة التدبيرية والمشاريع والحكامة وروح التسيير والأطر و الكفآة وحضر بدلها الريع السياسي بكل تجلياته و تمظهراته وغابت مصالح الجماهير ومستقبلها في الشغل والحياة السعيدة. ولم يبق ينخرط في عالم السياسة ولا من يدخلها على رغبة وإرادة ووعي لتعاطفه مع الأحزاب الفلانية لمبادئها وشعاراتها التي تصدع بها داخل وخارج مقراتها .وما تحمله من مشاريع مجتمعية جادة للنهوض بالبلاد والعباد ، بل تمخض الجبل فولد فأرا ، فلقد اتخذت السياسة في هذا الزمان طريقها الملتوي لا يسلكها إلا من عينه على الريع وتسلق الهرم الاجتماعي، والحصول على مصلحة بل مصالح كثيرة لن تكون له إلا بعدما أن يلج عالم السياسة وعوالمها المتشعبة بمنعرجاتها الصعبة ويصبح له اسمه ومكانته في هياكل الحزب الفلاني وتنظيماته. ويخلق له علاقات متشابكة بين أكثر من طرف لتحقيق مصالحه الضيقة في غياب تحقيق المصلحة العامة لأبناء الشعب و الوطن …
ولنا نموذجين لحزبين بأيديولوجية فكرية متباينة، من خلال وصولهما للحكومة ،فهناك حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، وبدعم من الكتلة الديمقراطية حينذاك وحزب المصباح الذي صار في نهج سابقه بحيث تبقى الشعارات لا علاقة لها بما سيقدم عليه الحزب من قرارات مفاجئة ومضرة جلها لا يصب في مصلحة الشعب ومستقبل أبنائه ..!!
- فهل الساحة السياسية تعيش خريف عمرها بما تعانيه من عزوف للشبيبة المغربية و للطبقة الوسطى، و فقدان الثقة المطلوبة من طرف الشارع المغربي، ومعه في وجوه زعامات و أشخاص عمروا طويلا ، وهم الآن يتواجدون في هرم تسييرها من أمناء و مكاتب ومجالس سياسية وفروع وغيرها ..؟؟وفي غياب كذلك الطبقة الوسطى التي تم تدميرها أو خنقها خلال العقدين الأخيرين بجملة من القرارات اللاشعبية من زيادات وضرائب وإصلاحات من جيوب متوسطي الدخل وغيره...