الطيب آيت أباه
"إحداث قوانين تُنظّم وتؤطّر حالة انتشار وكيفيّة اشتغال المتاجر العصريّة الكبرى وسلاسل المتاجر العصريّة المتوسّطة، بما ينسجم مع الغاية من إنشاء مجلس المنافسة" معيار توصيّة من بين التّوصيات التي توصّل بها وزير الصّناعة والتّجارة والاستثمار والاقتصاد الرّقمي أثناء جولته حول غرف التّجارة والصّناعة والخدمات بمناسبة المناظرات الجهويّة، التي احتضنَتها مقرّاتها بشراكة مع النّسيج الجمعوي، تمهيدا للمناظرتين الوطنيّتين للتّجارة والضّرائب.
تتقاطع التّوصيات المرفوعة إلى وزارة التّجارة عند نقط تلاقي مشتركة، وتتطّرق في مجملها بكمّها وكَيفها المتنوّعين في صياغتها إلى واحد من أهمّ المعيقات التي تؤرق كاهل مول الحانوت، وتَحُول دون استمراره كمقاولة ضاربة بجذورها في أعماق تُراثنا المغربي، وباستقصاء آراء شريحة التّجّار الواسعة الإنتشار بربوع المغرب، فلن تعثر على نسبة ولو شحيحة، تؤيّد وتُبارك انتشار المتاجر العصرية، لا بالشّكل الذي بَلغَته اليوم داخل الأحياء الشعبيّة، بعد أن أنجَبت سَلاسِلا التَفّت حول أعناق مّالين الحوانت في الدّروب والأزقّة، ولا حتّى بالشّكل الذي كان يُفترض أن تكون عليه خارج مدارات المدن، لأنّها -أيّ المتاجر العصرية الكبرى والمتوسّطة- عندما حَلّت لأوّل مرّة بالمغرب، لم تنهج سياسة الإدماج، ولم تحمل في طيّاتها لقاحا وقائيّا أو علاجيّا لقطاع التجارة بحالاته المستعصيّة.
تجارة القرب بصنفها المشهور والعريق التي كانت كأقسام الإبتدائي بطابعها التّقليدي، لم تكن مجرّد محلّات لإكتساب الرّزق، وكَفَى. بل كانت بمثابة فضاءات لتلقّي التّكوين الأولي والمعرفة بأبجديّاتها التّمهيدية، يشهد التّاريخ نجاحَ أمثلة عديدة من مُريديها، ودُفعات تخرجّت منها، وشَقّت طريقها نحو أشكال عديدة من الأمجاد، سواء وبلا حصر، في مجال المال والأعمال أو في مجال السّياسة أو بشكل بطولي في مجال المقاومة، ومع هذا كلّه، لم يُقابَل البقّال بما يستحقّه من عرفان. وهنا تكمن مسببّات الكارثة التي لم يهضمها لحدّ اليوم مول الحانوت بسلفه وخلفه. فقد صُدم في دهشة من أمر هذا الطّوفان الجارف، وهوّ يحمله في غفلة من أولياء أوموره صوب مصبّ النّسيان، لا لشيء سوى أنّ للمتاجر العصريّة الكبرى والمتوسّطة وسطاء وعملاء في دوائر القرار، يَحمون مصالحها على حسابه، هوّ الذي رابط في خنادق الحَارات السّكنية، وتقَدّم ضمن الصّفوف الأماميّة، دفاعا عن الأمن الغذائي، لتَنعَم الأحياء والدّروب بالسّلم الإجتماعي قبل عام البُون وبعده.
يَضيق المجال للخوض في دقيق التّفاصيل، لأنّ ما وقع لمول الحانوت ليس بالأمر الهيّن، ولا يمكن استيعابه بسهولة، ولكن عندما ننظر إلى الأمور من زاوية مخالفة، سنكتشف الغياب القاتل للدّراسات والإستراتيجيّات والمخطّطات الضّرورية للنّهوض بقطاع التّجارة وتطويره، بشكل يضمن الإستمرار من نقطة البداية، وليس الإقلاع الفئوي من مطارٍ بُنيَ على أنقاض أهل الحرفة، تيَمّنا بتجارب استُنسخت من دول متقدّمة، لم تلجأ إلى القفز على المراحل، عندما كانت تضَع في صُلب تصاميمها التّشاركية الأوّليّة تنميَة البَشر قبل وَضع الحَجر.
وكما أسلفتُ الذّكر فإنّ عمليّة إدماج تجارة القُرب التّقليديّة في الوثيرة التي إنطلقت بها المتاجر العصريّة بداية ظهورها بالمغرب، لم تُؤخد في حينها مَحمل الجدّ، ما ساهم في إتّساع الهوّة بين الجديد المرغوب فيه طبعا، والقديم المتجاوز عادةً. فمثلا عوض أن يتسبّب متجرٌ عصريّ في إفلاس ما يحيط به من تّجّار صغار، كان الأسلم القيام بدراسة ميدانيّة استباقيّة، يكون متاحا بعدها لمن يرغبون في مواكبة العصرنة، إمّا الإنصهار بمعرفتهم وخبرتهم في تسيير جزء من فضاء المتجر العصريّ المُحدَث، والإستغناء عن الدّكان القديم، أو الخضوع بشكل كلّي إلى عمليّة تأهيليّة، لا من حيثُ مرافق الدّكّان وتجهيزاته شكلا ومضمونا، ولا من حيثُ التّكوين اللازم لإستوفاء جميع شروط الكفاءة المهنيّة الحَديثة.
خلاصة القول أن لا عاقل سيتمسّك بالبقاء حيث بدأ، بل جميع من يشتركون هذا الكون في تَوْقٍ مستمرّ إلى تطوير نمط عيشهم، خصوصا مع ما بَلغَه العلم من مستويات، بات معها العدول عن تفحّص هاتف ذكيّ لبُرهة من الزّمن ضربٌ من الحمق والجهل، ولو كانت الغرف المهنيّة بما نظّمَته من سفريات خارج المغرب، تعكس طموحات منتسبيها، وترصد بأعيُنهم كلّ صغيرة وكبيرة هناك، من شأنها أن تفيد في تأهيل قطاع التّجارة هنا، لأوْجَدَتْ من مول الحانوت بموادّه الخام وجُهوزيّته المعتادة، ما يمكن أن يَصير منتوجا إقتصاديّا محليّا خالصا، يَمزج بين الأصالة والمعاصرة، كتُراثٍ ومقاولة، في جسم واحد، بجهاز مناعة مواطناتي فريد من نوعه، مختوم بعلامة "صُنِع في المغرب".