عبد الله الدامون
يتذكر المغاربة خطابا للملك الراحل الحسن الثاني، أيام كانت السكتة القلبية تراود المغرب عن نفسه، حين خطب وقال إن المغرب يحتاج إلى مسؤولين «اوْلادْ النـّاسْ».
كانت هذه العبارة صدمة، لأن الملك منح المغاربة فرصة عظيمة لكي يسألوا أنفسهم: هذه الجيوش الجرارة من المسؤولين الذين يحكموننا.. أليسوا اولادْ ناس؟
يعرف المغاربة أن الملك الراحل بقدر ما صنع مغربا على مقاسه في فقره وأميته وتناقضاته، فإنه أيضا كان يعرف الحقيقة المرة أكثر من أي أحد، لذلك عندما قال إن البلاد محتاجة إلى أولاد الناس، فإنه كان متيقنا من أن البلاد سقطت في يد جيش جرار من أولاد (...).
المغاربة أيضا -أو، على الأقل، نسبة مهمة منهم- كانوا يعرفون أيضا ما يجري، لكنهم كانوا محرومين من حرية التعبير، ومن أجل أن يصفوا اللص بكونه لصا فإنهم كانوا يدورون حول أنفسهم مائة مرة.
اليوم، يمكن للناس أن يقولوا ما يريدونه، تقريبا، ويمكنهم أن يسموا الأشياء بمسمياتها، إلى حد ما، لكن مشكلتهم تشبه ما حدث لعبد الإله بنكيران مع صلاحياته الدستورية، إنهم لا يريدون، وربما لا يزالون خائفين، وربما يعتقدون أن الحسن الثاني قد يطلع عليهم في أي وقت بخطاب يقول لهم فيه: غادي نـْخلي دار بوكم.
المغاربة يعرفون أن الفساد -الذي يشبه، اليوم، ديناصورا عملاقا- كان في وقت مضى مجرد طفل يرضع، ثم صار يحبو، وأخذ بعدها يحاول الوقوف على رجليه لكنه كان يقع، وظل يكرر المحاولة تلو الأخرى إلى أن وقف، ومع مرور الأيام والسنين صار طفلا نشيطا ثم فتى يافعا، وبعد ذلك أصبح شابا قويا ثم تحول شيئا فشيئا إلى وحش كاسر؛ وفي كل هذه المراحل كان الناس يرون الفساد يكبر أمامهم ولا يستطيعون شيئا. لكنهم لم يقفوا دائما مكتوفي الأيدي، ففي كل عشر سنوات، على الأقل، كان المغرب يعرف انتفاضات دامية ضد غول الفساد، من الخمسينيات مرورا بالستينيات والسبعينيات، وحتى الثمانينيات وبداية عقد التسعينيات، لكن الفساد كان ينتصر باستمرار، وشيئا فشيئا اعتاد عليه الناس وطّبعوا معه، ولم يعد الفساد وحشا أو غولا، بل صار يحمل أسماء محترمة، مثل الحاج والسّي والسيد.
عندما وجد الفساد أن المغاربة طبّعوا معه لأنهم اعتادوا العثور على أيديه داخل جيوبهم، صارت العلاقة عندئذ «سمنا على عسل»، لذلك فإن الربيع العربي مرّ قرب المغرب ثم تحول بسرعة إلى صيف أصفر فاقع لونه. إن سبب ذلك واضح، فالشعب الذي لا يريد إسقاط الفساد أكثر بكثير من الشعب الذي يريد إسقاط الفساد.
اليوم، عندنا فاسدون «كـْلاصْ»، أي أنهم يسرقوننا ليل نهار ثم يغضبون علينا إذا غضبنا عليهم. نحن المغاربة يجب أن نكون اليوم صرحاء جدا مع أنفسنا، صرحاء إلى درجة القسوة، ونعترف بأن إحساس الغضب مات فينا بشكل نهائي، والدليل على ذلك أن فضائح مجلجلة تمر قرب أنوفنا صباح مساء بينما نكتفي بالتفرج كما لو أنها مباراة لكرة القدم.
في الماضي كان عندنا فاسدون وناهبون، اليوم عندنا «قـْطاطـْعيّة»، يعني لصوص لا يشبعون أبدا، لصوص مهنتهم الرسمية هي النهب وافتراس الميزانيات والسطو على أي شيء يقع تحت طائلة نفوذهم. ويبدو أنه من بين أحسن الأوصاف التي توجد في الدارجة المغربية مصطلح «لقـْطاطـْعي»، لأنه يعبر بشكل مثير عن واقع الحال؛ فاليوم عندنا مسؤولون لصوص في كل القطاعات يتمنون لو أن الليل لم يكن يوجد أصلا حتى لا يناموا فتفوتهم فرص كثيرة للنهب.
في الماضي، كان لقـْطاطـْعي هو ذلك اللص الخطير الذي لا يشبع من اللصوصية ويقضي ليله ونهاره حاملا سيفه متربصا بالناس على قارعة الطريق؛ أما اليوم فإن لقـْطاطـْعي هو ذلك المسؤول اللص الذي لا يشبع من السرقة والنهب وأخذ الرشاوى والعمولات وابتزاز الناس.
زمن اللصوص العاديين في المغرب انتهى وجاء زمن لقـْطاطـْعيّة، زمن الذين يسرقون فلا يشبعون، ويُضبطون فلا يُحاكمون، ويحاكمون فلا يُسجنون، وقد يُسجنون فيخرجون، وعندما يخرجون يسرقون.
في زمن لقـْطاطـْعية لا يعاني الشعب فقط من اللصوصية، بل يجب أن يُسرق ثم يشكر سارقه.