سعيد المودني
نصل إلى المقالين أو الثلاثة المتبقية في هذا المجال المخصص للمشترك الرديء في بنية الحكم عند الأنظمة المتخلفة بشكل عام، والعربية منها على وجه الخصوص، بصفتها الأكثر تسلطا والأدوم وجودا، قبل إسقاط النتائج والتجليات على القطاعات التي تسيّر الشأن اليومي للمواطن..
والسؤال يبقى متعلقا بسبل الإنقاذ، ما دام الناس يكادون يتفقون أن الأنظمة المتحدث بشأنها فاسدة مستبدة شمولية مطلقة، وأنها هي المسؤولة عن كل المآسي التي نرزح تحتها على كل المستويات، لكنهم يختلفون بخصوص تحديد أسلوب التعامل معها، وينقسمون حول ذلك فرقا، منها من يسمّون بـ "الواقعيين" أو "المتعقلين" الذين يرون ما يرى غيرهم من الظلم، ويودون لو يرتفع، لكنهم تفزعهم التكلفة، فيلجؤون إلى "أخف الأضرار" ويرضون بالظلم القائم خوفا من حصول ظلم أكبر،، متمترسين وراء نعمة الاستقرار، متخندقين خلف بعبع سوريا والعراق..
والحاصل أن هذه نظرة في عمومها متماهية بين أفراد الطبقة المتوسطة المستفيدة من الوضع، والتي تعتبر -واقعا- طرفا مستفيدا يسعى للحفاظ على المكتسب من جهة، وبين "التلفيين" الذين ألبسوا على الناس دينهم، فكانوا طرفي نقيض في الحالين(قبل 16 ماي وبعده بالنسبة للمغرب) من جهة ثانية، وبين بعض من يعصى على التصنيف من أفراد الطابور الخامس أو الحرس القديم من جهة ثالثة..
لا يصح ولا يستقيم الاقتناع بمظلومية شعوب والوقوف مع الحكام الظالمين المتغطرسين السائمين الناس العذاب،، بذريعة أنهم لا يريدون الفيء، وإلا نقعّد أن كل من لم استأثر بشيء مما نملك ولم يرِد التنازل عنه بحد السلاح يجب أن نتنازل له نحن بدل ذلك، في تحد مغال لكل مبادئ الدفاع عن النفس أو الحق أو الرزق أو العرض، بما في ذلك مجابهة الاحتلال المدجج، بصفته ليس إلا وجها من أوجه الاستبداد، إن لم يكن وكيلا عنه وقائما بأمره وناطقا باسمه!!!..
إن منطق الأسطوانة المشروخة المعممة في الأقطار العربية: "احسن من سوريا والعراق" لهو منطق مخابراتي محض. إذ ليس قدرا أن يختار الناس فقط بين سوريا والعراق من جهة، ورومانيا تشاوشيسكو من جهة أخرى.. هناك خيارات أخرى يجب أن تضاف إلى المفضلة.. فليس في الكون فقط سوريا والعراق، بل فيه أيضا فنلندا وهولندا وسويسرا، ولن نبقى أسرى هذه المقاربة المقارنة بمن امتدت له يد المؤامرات الكونية بين أعداء الخارج وعملاء الداخل كي تصنع فزاعة تستمر دهرا.. لن نبقى أسرى لهكذا سيرورة كي نغض الطرف عن الاستبداد والشمولية..
الخوف من أن يصير الحال كما هو في سوريا والعراق ليس مقصورا على الشعب المعدم أصلا، بل هو يتملك أكثر من يمتلك ما يخسر، عدا عن أن حال بشار لا يسرّ "شاوش القايد" فما بالك المسؤولين.. فالفزاعة تفزعهم أكثر مما تفزع غيرهم، هم فقط يسوقونها نذير استباق وردع، ولا ندري لمَ نجاريهم ونلزم أنفسنا بهذا المقارنات "النسبية" المجحفة؟ ألا يحق لنا أن نقيم المقارنة الذاتية المطلقة بين الإمكانات والضوابط والواقع؟؟!!!..
البديل عند القوم هو الإصلاح الناعم.. والحقيقة أن المراهنة على ما يسمى بالإصلاح من الداخل بالتدرج أو في ظل الاستقرار عبر التعامل أو التعايش مع أي أراجوز من الأصنام المعينة في الأقطار العربية، هي المراهنة على شرف قاطع طريق محترف، مورط في مافيا شبكة لصوصية، أن يعيد المسلوبَ مبادرة وتطوعا، والحال أنه لو كان الأمر كذلك ما كان ليسلب أصلا، فكيف وهو قد تورط في الإيذاء وسفك الدماء، حتى نشأت أثآر إن عفا فيها الولي لا يطمئن الجاني!!!..
كيف "يتوب" وهو لا يملك من أمر نفسه شيئا، ما دام أسياده لا يقبلون له ذلك، وأيضا بحكم تورطه في أداء خدمة رؤسائه الأمميين وذوي نعمه والمتحالفين معه في الخارج، ولأذنابه وحواشيه وأخطبوطاته في الداخل، حتى أوغل في الدماء والأعراض، وتحالف مع الأعداء، واستغل الخونة، واستمرأ هو أسرته وعائلته والمقربين منه... حياة السلطة والترف والبذخ...!!..
إن التدريج/التدرج له ضوابطه مقتضاها تنزيل مشروع على مراحل، ولا يمكن بأي حال أن يحتمل تقبل التعايش مع مفاسد معلومة من الواقع بالضرورة، كما هو الحال مع شيوع الظلم والفساد والإفساد والريع والفشل وغياب المحاسبة وإطلاق اليد... أما قاعدة "ما لا
يدرك كله لا يترك جله"، التي يستدل بها بعض "الإصلاحيين"، فلا يمكن إقحامها في ميدان المشاركة في إعطاء الشرعية للفساد وإطالة عمر الاستبداد.. ومن يمنح الشرعية للفساد الممأسس ويطيل في عمره لا يمكن أن يسمى بأي حال مصلحا متدرجا، وإنما مرتزقا متنفعا، أو في أحسن الأحوال ساكتا..
إن السنن الكونية في التغيير تأسس أن الحق ينتزع ولا يمنح، وعليه فالمراهنة على التفاوض مع المستفيد المتسيد لن تكون -في أحسن الأحوال- إلا تحسينا شكليا لظروف الاستعباد وشروط الاستبداد التي لا يُتصور إجلاؤها دون القطع مع أسباب الداء ورؤوس الفتنة وأنياب الأفاعي والشروط المحققة لكل ذلك، والتعويل في المقابل على القاعدة المقهورة المهضومة حقوقها، باحتوائها وتأطيرها وتوعيتها وتوجيهها، قصد خلق توازن قوى ونقط ضغط تسمح بالتأسيس لقواعد عمل جديدة واضحة تضع حدا للريع والتسيب، وتربط المسؤولية بالمساءلة والمحاسبة والمراقبة، لأن دخول المعترك السياسي دون قواعد محددة وضمانات واضحة يؤدي إلى الفشل، وقد أعاد العرب كلهم هذا التجريب،، مع فشله، لأنهم، وكما يقول المثل: من جرب المجرب فعقله مخرب!!!..
إن التغيير الناعم يمكن أن يفي بالمراد، كما أقلعت به ماليزيا، ونمور آسيا معاصرة لها أو قبل أو بعد، وإسبانيا، بل والهند، والبرازيل، وتركيا...، لكن انطلاقاتها كانت في بنية قانونية دستورية سياسية سانحة، بما تَوفر من مناخ يسمح بفرز حكومات منسجمة ابتداء، قادرة على تنفيذ وعودها وبرامجها في شقها الأكبر مرحليا، أعطت الثقة للشعب والشرعية للمؤسسات الحزبية انتهاء، فتراكم الإنجاز والثقة. ولم يجرِ ذلك في بنية تجعل للدول سبعة رؤوس يتيه فيها الراكب بالـ"GPS"، ممشكلة، لا تحدد من يفعل ماذا، وتجعل لكل سلطة صورية ظلالا أوثق من الجسم نفسه، وتركز السلطات الفعلية والصلاحيات الناجزة في الأيادي الثابتة.. فلا قياس مع وجود الفارق.. لا مقارنة بين دول الفائز فيها يحكم، وأخرى الحاكم فيها يفوز!!!..
إن وجود معارضة شعبية قائمة، وغياب "معارضة إصلاحية" تمثلها يدلل على استحالة الإصلاح المسوق..