سعيد المودني
تقدمتْ في المقالين السابقين الإشارة إلى "استعمال" النظم العربية المهترئة لمتعلقات الحقل الديني، وذعرها من مزاحمتها فيه من طرف الشرفاء.. وتقدمَ في ملفات ترهل واستبداد هذه الأنظمة أن أخشى ما تخشاه النظم المستبدة المرعوبة هو حراك الشارع.. لذا فهي تحاول تطويقه من جميع الجوانب، عبر إرشاء القيادات و"النخب" المجتمعية المفترضة، السياسية منها، والنقابية، والإعلامية، والحقوقية، والمدنية،، بل و"الأعيان"، والرأسماليين... فتجعل لها نصيبا مفروضا في الغنائم، ولو كان فتاتا، تتنوع طبيعته، وتختلف خواصه، وتتفاوت مقاديره... منه المادي "ذي القيمة المطلقة"، كالأجور والأتاوات والتعويضات والتقاعدات والإشهارات... ومنه العيني، كإطلاق اليد في استغلال البحار والمناجم والرمال والغابات... ومنه "القانوني"، كتفويت الصلاحيات، وإعطاء المأذونيات، وتقديم الإعفاءات من الضرائب والمستحقات... وبهذا ضمنت(الأنظمة) صمتَها(القيادات) واستحالةَ قيادتها أو دعوتها لأي حراك جماهيري شعبي في الشارع..
لكن، ولأنها تعلم علم اليقين أن الشعوب ستتفلت سريعا من رباق تلك "النخب" المدجنة، فقد ركزت على ضبط ومحاصرة الثابت والمعمم لدى هذه الشعوب، أي "المدخل الديني".. فأطبقت على المساجد قبضة حديدية لا تدع مجالا لأي انفلات محتمل.. فأمّمتها، وجعلتها بيوتا لها بدل أن تكون بيوتا لله، وأحكمت مراقبتها.. بل وتنتقي "مستخدميها"، من أدنى بواب إلى أعلى خطيب، بـ"عناية" فائقة، بمعيار الولاء وتَمثل فهم "الدين المرتضى"، حتى أصبحت عندها معرفة تفاصيل "القيمين على المساجد" أهم من معرفة تفاصيل كبار المسؤولين في القطاعات الوزارية المنتجة.. فلا تتسامح ولا "تتنازل" في "معايير" اختيار هؤلاء القيمين، لأنها تعلم أنها قد تُؤتى من هناك(وسيكون)، وتحيط من اختارت منهم بأقصى درجات "الأمان" والحصار..
والشواهد على اختراق "المجال الديني" وتأميمه وتوظيفه وتعيين من يكرس ذلك ويرسّمه... لا تخفى، بدء من التدخل في الجزئيات "التعبدية"، وصولا إلى تحديد السياسات وتعيين من ينفذها، نورد منها هنا نزرا مما تيسّر، مما يشاهَد أو يُلمس واقعا، ومما هو ناتجُ منطوق الخطابة أو وحي المنابر..
إن المستبدين العرب، وعبر "أدواتهم المساجدية" وعلماءهم/عملاءهم، يفرضون على الشعوب مذاهب معينة مختلفة بين "كنطون" وآخر، ويُلزمون الناس التقيد بها، ويثبّتون آراء(بل وأحيانا "طقوسا") محددة، كفرض التسليمة الواحدة نهاية الصلاة، أو إعادة/ترديد المأموم للتكبير بعد الإمام(في كل الصلوات، بما فيها السرية، مع أن من كبّر ثلاث تكبيرات جهرية في صلاة سرية ربما يكون عليه الجبر بسجود بعدي)، مع انتفاء أية حاجة لذلك(صغر المسجد، قلة المصلين، تشغيل مكبر الصوت...)، أو الختم الجماعي و"رفع الفاتْحة" عقب الصلاة(والغرض الثاني، بعد "التطقيس والتفريد"، اختلاق فرصة لـ"الدعاء للحاكم")، أو "رواية الحديث" قبل خطبة الجمعة، حثا لمصلين مفترضين(لم يأتوا بعد) على عدم لغو مفترض، مقابل الامتناع عن حث المصلين الحاضرين أثناء اللغو الواقع...
وبالطبع لا يمكن أن يكون الهم هو الجانب الفقهي لمن مرق من الدين وخرب روحه وأصوله وأركانه.. وإنما باعث الحرص هو استعمال هذه "الشكليات" كأدوات للتمييز والتفرقة بين شعوب الكنطونات، وكذلك من باب ضمان حضور مؤشر دائم يقيس كمّ التطبيق والامتثال والتبعية لدى الشعوب، والذي يؤشر بدوره على مدى القدرة على التحكم في المجتمع وضبطه، من خلال أهم مكون في حياته،، الدين..
ويما أن أهم مداخل الحقل هو الوعظ والخطابة، فإنهم يعتمدون حرصا هستيريا على إحصاء ألفاظ الخطيب، تفاديا لمجرد "احتمال، حضور، نية، محاولة، التفكير في التوعية" بالحقوق التي يضمنها الدين، ويلزم الحكام توفيرها، بل ويلزم حتى المواطنين المطالبة بها، طلبا للرفعة والسيادة، ورفضا للذلة، ورفعا للمهانة.. حتى أصبح للخطيب عندهم دور خاص، يتراوح بين سرد الإنجازات الوهمية، والتغني بخطب مكتوبة في عصور غابرة، سحيقة، مظلمة، تستجيب لميزان السجع والتكلف أكثر ما تستجيب للتوعية والترغيب والترهيب وإيقاظ الهمم، والحث على الصلاة والصوم والصبر..
من جانب التأليف، يبقى التساؤل ملحا وغاية في الأهمية عن المواصفات التي يشترطونها في كاتب هذه "الخطب"، وأيضا سعة خياله، وكذا عن نفسيته وهو يؤلف هذا الكذب والبهتان والزور والدجل والتدليس والتلبيس... ليلقى فوق منابر المسلمين، ساعة وعظهم!!!.. يعني مطلوب كذاب ليكتب ذاك الهراء،، وأيضا يجب أن يكون مخدرا ساعة الكتابة!!!..
خطب لا تعدو نشرات دُبجت هناك في مكاتب المخابرات الملحقة بالشؤون الدينية، يكتبها مخدَّر منفصم، ويلقيها كذاب برتبة خطيب، لكن بعد أن يكون قد أمر "الراوي" بنهي "المصلين" عن اللغو..
يتبع..