لحسن الجيت
إن غضب النظام الجزائري على عودة إسبانيا إلى الاحتكام إلى العقل وإلى التاريخ في قضية نخص المغرب في كيانه والٌإقرار بمغربية الصحراء في إشارة واضحة مؤيدة لمبادرة الحكم الذاتي، فغضب ذلك النظام من عدمه سيان من منظور مملكة ضاربة في القدم ولم يعد يهمها عويل دول مارقة. ولذلك، فإن المغرب لم يعد له ذلك الوقت ليضيعه في الكشف عن المفضوح كي يشهد العالم مرة أخرى على أن الجزائر هي الطرف الحقيقي . فهذا أمر تجاوزته الدبلوماسية المغربية بعد أن سقطت ورقة التوت عن عورة النظام الجزائري.
ما يهم المغرب اليوم هو الانتقال النوعي بدبلوماسيته والارتقاء بها إلى مصاف القوى الفاعلة في هذا العالم ومقارعتها في كل ما يتعلق بقضاياه ومصالحه الوطنية. ولم يعد هناك مجال للمغرب ليقبل بالمساومة أو الابتزاز بعد أن اختار لنفسه وبمحض إرادته أن يرفع في وجه الجميع دبلوماسية الوضوح القائمة على الصرامة وعدم التفريط في الحقوق.
كانت رسالة المغرب واضحة تمام الوضوح في الخطاب الملكي لشهر غشت من عام 2021 بعد أن شدد جلالته على أن أي طرف يريد إبرام اتفاقات مع المغرب وإقامة تعاون معه يجب أن يشمل ذلك كامل التراب المغربي بما فيه الأقاليم الصحراوية وما دون ذلك لن يقبل به المغرب. موقف ملكي صارم وواضح يترجم بالفعل إجماع المغاربة على أن وطنهم غير قابل على الإطلاق للتجزئة أو العبث فيه. ولأن هذا التوجه على ما هو عليه من ثبات فهو يعكس إرادة الدول التي تثق في نفسها وتثق في إمكانياتها ، كما كانت الخرجة الإعلامية التي أأطل بها وزيرة الخارجية السيد ناصر بوريطة بنبرة من التحدي بأن "مغرب اليوم ليس هو مغرب الأمس" تندرج هي الأخرى قولا وفعلا في الإطار اللازم الذي رسمه التوجه الملكي.
وعلى هذه الخلفية ينبغي فهم التحول الحاصل في الموقف الإسباني الذي احتكم أخيرا إلى منطق الشرعية التاريخية. هذا التحول فرضته كذلك الاعتبارات الجيواستراتيجية التي تعزز مكانة المغرب سواء على مستوى المنطقة أو على مستوى القارة و على المستوى الدولي. إذ يكفي إلقاء نظرة على خارطة العالم لتتبين مدى أهمية الموقع الاستراتيجي للمملكة في ظل كل التجاذبات والتحولات الآخذة في التبلور على أكثر من صعيد. هذه التحولات عرف المغرب كيف أن يواكبها ويتموقع فيها ليسخرها لقضاياه ومصالحه الاستراتيجية. وليس من باب الصدفة أن نشاهد اليوم بعض القوى الوازنة على الصعيد الدولي وهي تتساقط وتهرول لشراء ود المغرب. إنها دبلوماسية ملك بل حكمته هي التي ساهمت بكثير في تغيير قواعد اللعبة وإحداث انقلاب في خطاب تلك القوى تجاه المغرب وإعادة النظر في تعاملها ومواقفها بالشكل الذي يلتقي مع اهتمامات وانشغالات المملكة.
هناك معطى آخر لا يقل أهمية عن الاعتبارات الجيواستراتيجية ويتمثل في كون أن ما حمل إسبانيا بما فيها بعض القوى الأخرى التي هي بصدد إعادة ترتيب حساباتها مع المغرب، هو أن بلدنا مقارنة مع الجوار بات ينظر إليه بدولة المؤسسات. وبقدر ما هو دولة تحترم التزاماتها ولا تنهج دبلوماسية المزاجية بقدر ما يجلب له ذلك مزيدا من الاحترام والتقدير وانتزاع ثقة الأطراف التي تتعامل معه. فدبلوماسية المغرب قائمة بالأساس على مبدإ المعاملة بالمثل وهو ما يعني أن حرصه الشديد على ضمان مصالحه يوازي في نفس الوقت حرصه على الإيفاء بالتزاماته على النحو الذي يضمن مصالح شركائه. وعلى النقيض من ذلك، ينعدم حس المسؤولية عند القائمين على ثكنة الجزائر كما يفتقرون للأهلية اللازمة والمطلوبة في رجال الدولة، وتراهم يسوسون البلاد والعباد بنزوات ويغلقون أنابيب الغاز في وجه من يفترض أنهم شركاء لا لشيء سوى نكاية في كل ما هو مغربي أو هكذا على الأقل بسبب قصر نظرهم كانوا يعتقدون. فإن أخطأوا الحساب فهناك من لا يخطئه.
ثالث الاعتبارات التي تخدم أجندة المغرب وتعزز حضوره في دائرة الاهتمام الإسباني وغيره وهي النجاعة والمصداقية التي يحظى بهما المغرب بعد أن تحول إلى منارة تجدب القوى الدولية للاستئناس به في العديد من القضايا الشائكة التي يحسب لها الغرب حسابا ولا يستقيم فيها الجمع أو الطرح إلا بحضور المغرب. فالتاريخ له أحكامه وكذلك هي الجغرافية فلا أحد ينكر على المغرب أنه صلة وصل بين أوروبا وإفريقيا وأول من وجب عليه الاعتراف بذلك هي مملكة إسبانيا وكذلك فعلت لأنها أول من يتعين عليه أن يستفيد في علاقته مع المغرب ولا بديل لها عن ذلك سواء في الماضي أو الحاضر أو المستقبل بسبب وجود تحديات مشتركة تستوجب شراكة على المستوى الاستراتيجي أو الأمني وفي بقية المجالات من قبيل مكافحة الإرهاب والهجرة السرية، إضافة إلى التحديات الاقتصادية وفي مجال الطاقة والبيئة والبعد الإنساني وما يتصل بذلك من تراث مشترك وحضارة تمتد في أعماق قرون خلت لكنها حاضرة بقوة في الوعي الجماعي للشعبين المغربي والإسباني إن على المستوى الفني أو العمراني.
وإن عادت اليوم إسابنيا إلى جادة الصواب فهي قبل أن تكون عودة في صالح المغرب فهي وقفة مع الذات في سياق منطق الحكم الذاتي الذي يفترض فيه أن يحافظ على الوحدة الترابية لمملكة إسبانيا كما هي الوحدة الترابية للمملكة المغربية. المبدأ يجب أن يؤخذ في كلتا الحالتين ولا مجال هنا للكيل بمكيالين. ووقوف مملكة إسبانيا على هذه الحقيقة يعزز الثقة في بناء مستقبل مشترك بين البلدين ويفتح المجال رحبا لدول تسترشد بتوجهات إسبانيا منها دول أوروبا ودول أمريكا اللاتينية.