سعيد المودني
نصل إلى المحور الثالث والأخير من الملف الفرعي الثاني(من الملف الأصلي "الإسلاميات")، والذي تضمّن بعض التأملات والتحديدات حول "مفهوم الإسلام" ومقتضيات الانتماء له، وما رافق ذلك من تفكيك وتحديد اصطلاحي، ونواصل فيه محاولات تدقيق بعض المفاهيم "البدائية" التي تبهم على بعضنا أحيانا، والتأمل في بعض "الصيغ" و"المكونات" التي لا تُستعمل على وجه واحد، أحيانا بحسن نية، وأخرى بسوئها.. وأخص -على سبيل الذكر، ولأنها عرضت لي في نقاشات عرضية- مجالين اثنين هما مفهوم "الأخلاق" وما طرأ عليه من "تمطيط" وتحوير و"مرْكزة"، وبعض مظاهر "اللبس العرفي" الذي يعتري مجاليْ الفرض والتطوع.. وسأتعرض لموضوع الأخلاق في مقال، وأفرد مسألة الفرض والتطوع بمقال..
فمن "الموضات" السائدة في عالم الناس اليوم: "التمركز حول الأخلاق كقيمة كونية".. ومعلوم أن الأخلاق هي تلك الصفات المعنوية الطارئة على تصرف الإنسان من منطلق الضبط الذاتي، بفعل تأثير عوامل قيمية أساسها الوازع المعنوي، غيبا كان أو عرفا.. وهي تختلف عن الطبع الذي غالبا ما لا يكون للمرء يد في تكوينه(على الأقل بالشكل الإرادي) أو السيطرة عليه أو تغييره لو كرهه(الصحابة رضي الله عنهم كانوا كلهم ذوي أخلاق راقية، غير أن طبائع عمر مثلا وأبي بكر وأبي ذر ليست نفسها في الشدة واللين).. في أدنى الأحوال هي "عادات" تم اكتسابها وترسيخها بتوطين النفس والمكابدة والممارسة..
وهي(الأخلاق)، وإن كان يُقصد بها غالبا المعنى الإيجابي، إلا أنها في الحقيقة لفظة محايدة، تكتسب قيمتها في السلب والإيجاب من كل خلق على حدة، بحيث يوجد الخلق الحسن والخلق السيء، ولا يفصَل بينهما إلا عند تحديد الخلق موضع التقييم..
والإيجابي منها غير تلقائي، بل يتحقق بتكلف ومثابرة ومجاهدة(وإلا كان طبعا لا فضل لصاحبه فيه، بل لربما يودّ أن لم يكن كذلك).. وقد حصر منها بعض المصنفين ما يناهز الثلاثين.. غير أن أمهات المتداول الإجرائي منها يمكن اختزالها في الصدق والأمانة والوفاء والشجاعة والكرم والإيثار والصبر والمروءة والعفة والعزة والثبات والحياء والشكر.. لأنها هي التي تغطي علاقات الناس في جل معاملاتهم(بل وقد تتعدى المعاملةَ بين الناس إلى معاملة غيرهم من الدواب أو النبات)،، وهي مجال التنافس.. ومن ظفر منها بشيء فقد ظفر بخير.. غير أن شمولها كلها، وفي قمتها، محال يحصل لغير نبي..
وتتداخل في المجالات المحصورة أعلاه الفضائل(الكرم: غير ملزم لا قانونا ولا شرعا) مع الواجبات(الأمانة: ملزمة وإلا أصبح غير مؤديها مجرما إذا ما أقيمت عليه الحجة).. وعليه يمكن أن تطلق الأخلاق -التي أول ما يتبادر إلى الذهن عند سماعها "النخبوية" و"الاختيارية"- على الواجب الملزم لكل الناس("أدناهم" و"أعلاهم")،، دون خيار أو تفاضل..
والحال أنه وإن كان "المجال الاختياري" للأخلاق يختلف بين المجتمعات حسب الدين والعرف، إلا أن لها، من حيث الوجود، بعدا كونيا غير مرتبط بدين ضرورة، بحيث من الناس ملتزم بخيّرها، ومنهم متصف بشرها، في كل "الأديان"،، بل وخارجها.. وعلى أيّ لا تكاد تخلو أمة من معاييرها الأخلاقية، على نسبية تلك الأخلاق، ونسبية الملتزمين بها..
وحتى بالمعنى المسيطر للأخلاق(حصرها في الفضائل)، فإنها قطعا مرغوبة، إلا أن الالتزام بها لا يكون أبدا على قدْر واحد، سواء لدى كل الناس مقارنة بعضهم ببعض(تفاوت بين الناس في نفس الظرف)،، أو في حياة نفس الشخص عبر الأيام والمواقف(تفاوت لدى الشخص حسب الظرف).. غير أنها، وإن كانت مطلبا فاضلا، وزينة للمرء لا يحتاج معها إلى حرير ولا إلى ذهب، إلا أنها لا تُدخل دينا ولا تخرج من ملة، ولا تضع دين المقلّ منها موضع مساءلة بله تشكيك، لأن الدين أشمل، وضوابطه ملزمة.. أما الأخلاق(بالمعنى السائد) فغالبيتها مآثر.. لذا فترتيبها يقع بعد العقائد والعبادات وأحكام المعاملات.. فمن أخرجته عقيدته من الدين لم تدخله فيه معاملته(بصفتها مجال تجسيد الأخلاق)، لأن الأخلاق مستقلة -فقهيا وعقديا- عن الإسلام والكفر، وحُسن أخلاق كثير من غير المسلمين اليوم لا تجعلهم مسلمين، كما أن سوء أخلاق كثير من مسلمي اليوم لا تخرجهم من ربقة الإسلام، مع أن الأخلاق عند المسلمين مرتبطة بالدين، بحيث لا يمكن أن تجد مصنف فقه يخلو من "باب الأخلاق"..
إن شروط الفلاح في الإسلام هي اجتماع الإيمان والعمل الصالح.. وصلاح العمل وإن كان إجباريا، إلا أن انتفاءه لا ينفي الإيمان، أي لا يدخل الكفر الموجب للخلود في جهنم،، ومن باب أولى انتفاء "الأخلاق"..
إن المنبهرين بأخلاق الغير، على فرض مطلق صحة الادعاء وصواب المدعى، لا يجاوزون التخبط والخلط بين "الأصل" و"الفرع"!!!..