سعيد المودني
تابع..
من جهة أخرى، فإن أصحابنا لا يفتؤون يتهافتون على مفهوميْ "الخلافة" و"الحكم الإسلامي".. ودون الدخول في تأصيل مفهوم الخلافة، وحكمه الشرعي، وتاريخه، وأقوال السلف والخلف فيه، وحكم العمل على إقامته،، يبقى المفهوم، في حده الأدنى، تصورا سياسيا لنظام حكم. أي سعيا مشروعا لجماعة من الناس اجتمعوا على فكر معين، ويرون الخلاص بمنهج معين، لا يلزمون به أحدا غير المقتنع به(اللهم ما كان من مقتضيات الخضوع لقرار الأغلبية، كتجسيد لمخرجات الديمقراطية كما هو متعارف عليها)، ويعملون من خلال هيئات فكرية مدنية علنية وطنية سلمية... لا يضر تصورها، ما دامت لا تفرضه فرضا، ولا يتبناه إلا من رضيه.. هذا، كما قلت، في الحد الأدنى،، ومن وجهة نظر "سياسية"..
أما من الناحية الشرعية، والتي يفترض أن تكون المنطلق عند المسلمين، فالطامة أن هؤلاء المشككين المعترضين الطاعنين الذين يؤرقهم مجرد ذكر الألفاظ والمفاهيم والنصوص المرتبطة بمسألة الخلافة، أقول: هؤلاء يمنعهم عنادهم وكبرهم وانخراطهم في "المشاريع الكونية" المشبوهة حتى من الالتفات إلى ذاك التأصيل ليتسنى لهم تحديد حكم العمل على المشروع.. بل يخرصون حتى عن الخوض في الحديث النبوي الشريف الناظم، المؤطر للمفهوم، والذي ينبغي أن يشكل المنطلق في البحث والنقد، حتى إذا ثبت عدم صحة ثبوت النص(وغيره من المبشرات)، أو عدم صحة معناه، تمْكن -آنذاك- مسايرتُهم ومؤازرتهم في مناهضة "الأفاقين" "المدعين" "المتقولين" المنادين بعودة الحكم بنظام الخلافة الإسلامية.. لا، لا يفعلون. وغاية ما يتذرعون به هو نبش تجربة الحكم الإسلامي ومضاعفة الافتراء عليه.. والحق أن تاريخ الدولة الإسلامية، والذي يريدون أن يتسللوا من خلاله للنيل منها، وخاصة في ما تعلق بعلاقتها ومعاملتها لمن كانوا تحت إمرتها من غير المسلمين، أقول: ذاك التاريخ معروفه معروف، ومقبوله مقبول، وبين هذا وهذا يوجد المجهول والمزوّر والمرفوض.. لكن، وحتى في هذا "الخرم" الذي يودون أن يجدوا فيه سندهم، فإن انتماء غير المسلمين(النصارى، اليهود...) للدولة الإسلامية وانصهارهم فيها ومساهمتهم في بناء حضارتها(كثير منهم مشهور أكثر من كثير من الأعلام المسلمين) لا يتيه عنه الإدراك،، ولا يزهر الغرباء، ولا يبزغون، ولا ينبغون حين يُنبذون..
أما بالنسبة لما يسْمونه "الحكم الإسلامي" في الفترة المعاصرة، فإن "الإسلاميين" لم يروا من الحكم -الحقيقي- إلا سجونه، كما قال أحدهم.. غير هذا، الأمر محض تجنّ.. فليس هناك نظم إسلامية أصلا حتى يمكن تصنيفها أو توصيفها والحكم عليها..
إن الأمر مجرد حقد مركّز، بغضا لدولة الإسلام أن تعود ولحكم الله أن يسود، وما هؤلاء المناوئين من بيننا سوى ظلال وانعكاسات وهزات ارتدادية وامتداد بيّن ومباشر لأعدائنا الحضاريين المعيّنين. لأنه، وبما أن تتبع سلاسل الولاءات والاصطفافات الاستراتيجية، الفردية والمؤسساتية والدولية، من أدناها إلى أقصاها، بما أن ذلك يشكل قرينة قوية يُعتد بها في تقييم الموقف، فإن التطابق "الغريب" في الاصطفاف بين أعدائنا المعيّنين من البوذيين والصهاينة والصليبيين من جهة، والهجين من بني جلدتنا من جهة أخرى،، هذا التطابق في الاصطفاف والتكاتف في مواجهة ومعارضة أي مشروع "إسلامي"(ولو في حدود نية قيامه)، لا يمكن أن يكون مصادفة،،، تتكرر تكرر العداء الأبدي السرمدي!!!..
أجزم أنه لو قال غربي أو بوذي بجدوى "الخلافة" لقال هؤلاء المستلبون بجدواها، لأنهم لا يستهويهم إلا ما جاء على لسان "الأقوياء".. إنه الاستلاب وقابلية المغلوب للاتباع، وانبهاره بغالبه، وتشبثه بقيمه ونظرياته،، هذا في ما خلا العمالة المأجورة!!!..
من زاوية أو منطلق أو منطق آخر، وبالمجاراة والإفراط في استحضار حسن النية، يمكن أن نسأل أصدقاءنا عن أي نمط من أنماط الحكم القائمة في العالم هو أجدى وأجدر وأصلح للمسلمين،، ويراعي خصوصية الإسلام في الفرد والأسرة والمجتمع والدولة؟؟!!!..
أم يريدوننا أن ينطلق الآخر في التنظير لنظامه من منطلقاته،، وننطلق نحن أيضا من منطلقاته؟؟!!!..
من جهة أخرى، وبطريقة أخرى، إذا كان ذلك نظام الحكم الإسلامي المفضي للخلافة الإسلامية لا يصلح، لماذا يتآمر عليه الإنس والجن ليخنقوه لحظة الولادة، بل ليجهضوه قبل الولادة، بدء من جزائر التسعينات وصولا إلى مصر 2013؟؟!!!.. لماذا لا يدَعون الناس يجربونه؟ وسيسقط من تلقاء نفسه، ما دام غير صالح!!!..
من جانب ثالث، وبالعودة إلى استحقاقات مسمى الديمقراطية هذه المرة: كيف السبيل إلى إقناع المقتنعين بالحل الإسلامي بالإعراض عنه؟ هل يجب الخضوع إلى رأي الأغلبية العددية، أم يمكن فرض الأمر بالحديد والنار؟؟!!!..
ثم ما هي المرجعية المقترح الاحتكام إليها لاختيار النظام المأمول: مرجعية التناظر، أم مرجعية الإنجاز، أم مرجعية الكم؟ فإذا كان هناك تحفّظ على التناظر بذريعة "الاستغلال الشعبوي لمشاعر الناس"، والإنجاز منعدم، إما بعدم التحقيق بالنسبة لفريق، أو بعدم إتاحة مجال التجريب أصلا بالنسبة للفريق الآخر، فإن ما تبقى هو الاحتكام للكم..
مدنيا، ودون استحضار البعد الشرعي بما يفرض من نظام حكم أو يحرمه، يبقى الأكيد أن إجماع الناس حول نظام حكم معين هو أمر محال، ولو افتُرضت فيه المثالية.. وعليه فالبحث عن حكم مجمع حوله هو بحث عن الماء في السراب، لأنه حتى إذا استُبعد الإسلام وأقصي عن الحكم، فاليقين أنه لا نظام حكم "مثالي" في التاريخ، وإلا لكان استقر في الزمان وعُمم في المكان..
يتبع..