سعيد المودني
دائما في ملف "الإسلاميات"، وبعد إنهاء "مليْف" "متخبطو الداخل الإسلامي" الذي كان طويلا نسبيا، وتعرضنا فيه إلى تخبطات أناس يُحسبون على المسلمين، لكنهم يريدون تفصيل إسلام على مقاسهم، يفوزون فيه بلقب "مسلم"، لكنهم يؤمنون فيه بـ"الشرائع الدولية" أكثر مما يؤمنون بشرائعه، ولو كان التعارض بينهما صراحا بواحا.. أقول: بعد إكمال ذاك المحور الفرعي، ودائما في نفس الملف الأصلي، نفتح "مليْفا" جديدا يتمحور حول شبهات ومغالطات تتعلق ببعض متعلقات الإسلام التي تشوب ممارساتها ريبة والتباس،، ولا تسلم من ذلك حتى أهم الأركان، كالصلاة والصيام...
لكنا نبدأ بلقطات أو متفرقات متنوعة، تمثل شبها ومشاهد تستعصي على الفهم والتقبل من طرف أي ملاحظ أو متأمل كـ"مسلم عادي". وهذه الممارسات منها ما يتعلق بمزاولة الأفراد، ومنها ما يتعلق بتوجيه "المؤسسات" القائمة..
من ذلك مثلا ما يجدّ بعض "الدعاة" في تقديمه من إعجاز كدليل على صدق رسالة الإسلام وما يستتبع ذلك من صحة، ومن ثم وجوب الإيمان بكل الأركان الستة المعروفة... لكنهم يخاطبون بهذا المسلمين المؤمنين،، أي ما يمكن أن نسميه "دعوة مقلوبة"، أو في أحسن الأحوال مقلوبة العنوان والوجهة!!!..
وهكذا تجد كثيرا من "الدعاة" والوعاظ والفقهاء والعلماء والإعلاميين... يبذلون جهودا مضنية في استغلال مخرجات ونواتج وثمرات الإعجاز العلمي أو اللغوي أو "الإخباري" في القرآن الكريم، حيث يستضيف علماء البيولوجيا البحرية والفلك والمجرات واللغة والتاريخ... ويستثمرون كل ما يقع تحت أيديهم من التسجيلات والشواهد... ويقدمون ذلك في الفضائيات، أو عبر تسجيلات في شبكات الانترنيت.. وهذا أمر جيد.. أما غير الجيد فيه فهو الفئة المستهدفة، ما دام الخطاب موجها، بالنظر إلى أسلوب الخطاب واللغة والقنوات... موجه إلى الجمهور العربي،، المسلم!!!..
يا ناس: نحن مسلمون، والله العظيم نحن ما يناهز 1,8 مليار مسلم. لا ننتظر تدليلا يضم "تسجيلات إعجازية" حتى نؤمن بما يجب أن نؤمن به من صفات الله تعالى!!!.. فنحن نؤمن بكل أركان الإيمان. وهذا هو مقتضى الإيمان، أي ألا يتوقف على المعرفة ويقترن بها ويترتب عليها وجودا وعدما، لأنه حينئذ لن يكون إيمانا، وإنما يكون اقتناعا مبنيا على مدخلات معرفية، شارك في امتلاكها وبنائها وبلورتها الحواسُّ والعقل.. وأصلا أكثر المسلمين عوام لا يفقهون كثيرا في ما يرد في تلك الصور والموارد والمحتويات الإعجازية،، ومع ذلك هم مؤمنون..
إن الذين يجب أن يخاطَبوا بهكذا خطاب هم أولئك المتخصصون -غير المؤمنين- الذين يفهمون ويستوعبون ويقدّرون مضمون وقيمة ذاك المحتوى الإعجازي، كل في مجال تخصصه.. لكن يجب الالتفات إليهم بما يحقق الهدف، وما يقتضي ذلك من حسن اختيار اللغة، والقناة، والوسط، والسبيل...
أما نحن، فإنا نرفع عن أولئك الباحثين المجتهدين المجدين هذا الحرج المكلف. فهم مطالبون، من جهتنا، فقط بتقديم خام لا يحتاج وسائل إيضاح نادرة باهظة الثمن، ولا اختصاصيين في العلوم الكونية والدقيقة والمنطق.. هم مطالبون فقط بالحديث عن "الإعجاز الواقعي" المتعلق بالحقوق والحريات والعدل والكرامة والنزاهة والشفافية والمسؤولية والمساءلة والمحاسبة والمراقبة... وما ماثلها مما هو متوافر في الواقع، متاح العرض، مجاني الدلائل، سهل الفهم!!!..
في مجال آخر، ومما يستعصي بدوره على التقبل ولا يستساغ على الفهم، هناك ما يمكن أن نعنونه بـ"إقرار أجر المرابط، ومنع الرباط".. ذلك أن غالب أنظمة الحظائر العربية يسقطون في هذا التناقض المريع، حيث يحث جهاز(خطباء المنابر) على أمر،، يمنعه جهاز آخر(السلطة التنفيذية) في حينه.. وهكذا تجد خطيب الجمعة مثلا يسرد حديثا مفاده أن من أسبغ الوضوء على المكاره، وأكثر الخطى إلى المساجد، وانتظر الصلوات، فإنه من المفلحين، لأن أجره يقارن بأجر "المرابط"، أي المجاهد.. فالأجر هنا بني إذن على مقارنة وقياس.. وللمقارنة والقياس قواعد وأركان، الثابت فيها أن المقارن به أو المقيس عليه هو الأصل، وهو "الأول" والأولى،، أي أن -في حالتنا هذه- جهاد العدو المحتل، أو الغازي، أو المستبد، أو الظالم، أو المحتكر... يكون هو الأصل والأولى والأقوى والمحفز، والمعيار أو مقياس التقييم الذي على أساسه يتم إسقاط تقييم الشبيه والمقيس(إسباغ الوضوء وإكثار الخطى وانتظار الصلوات)، وبالتالي يكون "الرباط/الجهاد" هو الأصل في النجاح والفلاح،، لكنهم يستنكفون عن مجرد ذكر مصطلح "الجهاد" وترتعد من لفظه فرائصهم،، فما بالك يعتمدونه أو ينظّرون له....
ذكر الرباط هذا يحيلنا إلى توظيف نص آخر يحثون به على الاعتكاف وانتظار الصلوات،، لكنهم يمنعون المعتكفين ويطردونهم ويُخرجونهم من بيوت الله بالقوة، فيكون المشهد آية في السريالية: خطيب يحث الناس على الاعتكاف والرباط بنص الأحاديث الشريفة، وأجهزة أمنية تخرجهم من المساجد التي رغّبهم ذلك الخطيب في الاعتكاف فيها!!!..
فلا هم سمحوا بالرباط بمفهوم الجهاد، ولا هم سمحوا به بمفهوم الاعتكاف، ولا هم سكتوا عن النصوص المرغبة وقياساتها!!!.. إنه قياس على غير مقيس!!!..
يزيدون من الشعر بيتا حينما يذكرون تلك الجملة "العيارية" الثابتة في المساجد المؤممة، والأبواق المأجورة، ولدى دكاكين السياسة،، التي تظل تتردد عند كل "تنازع": "يجب احترام ثوابت الأمة في الإيمان بالله والدفاع عن الوطن..."..
عبارة غير مفهومة، ولا أصل لها ولا فصل في عالم الدوال المنطقية، وتثير فيّ سيلا من الأسئلة: ما هي محددات الأمة؟؟!!!.. من وضع هذه الثوابت؟ ومتى؟ وكيف؟؟!!!.. في حالة ما إذا لم يرتض بعضَها أحدُهم،، هل يجوز له ذلك، أم الأمر قصر وحصر؟؟!!!..
على مستوى سلوك الناس هذه المرة(وإن كان توجيه "المؤسسات" لا ينتفي)، أجد صعوبة في هضم فعل من يتركون جيرانهم في أمسّ الحاجة لأساسيات المعيش، وهم يعلمون، ويرتحلون في كل موسم من كل سنة للاعتمار، والتباهي، وشراء الألقاب، والتسوق،، وزيادة مداخيل "السياحة الدينية" لمن لا يستحق؟؟!!!..
ولا أفهم كيف يستقيم الاعتمار مرة أو مرتين من كل سنة ممن يجاورون أيتاما ومحرومين ومعوزين؟؟!!!.. أيّ دين يجوّز هذا؟؟!!!.. أم هو المفهوم الجديد لـ"الدين" الذي يدعو له المغرضون السياسيون في الداخل الإسلامي وخارجه،، وأباطرة السياحة الدينية..
إن تقييم التدين يختلف، وأرى أن التقييم الذي يمكن أن ينبني عليه تصنيف ذو قيمة، ويبين صواب الموقف أو خطأه، هو قياس حالة المؤمن الواقعية بكل تجلياتها العقدية والتعبدية والدعوية و"المعاملاتية" في علاقتها بأصول الدين في حدها الأدنى، والاستحضار اللحظي القار للانتماء الهوياتي، وادخار الخوف من هول المصير، وعدم الاكتراث بما عاداه، والزهد في ما سواه.. لكن ذلك القياس يجب أن يتم بشكل كلي تراكمي، وليس بشكل تجزيئي انتقائي، لأن المعالجة بهذا الشكل الأخير يمكنها بسهولة إخراج أي مؤمن من الملة إذا ما ارتكب خطأ ما، ولو كان خطأ فقط في نظر المقيِّم!!!..
في المقالين المقبلين سنتعرض، بإذن الله، لـ"شبهات" حول الصلاة في المقال الأول، ثم الإشكالية المصطنعة حول "جدولة" التأريخ الهجري، خاصة في ما تعلق ببداية صيام رمضان وعرفة، وإقامة العيدين... في المقال الثاني..