عبد الغاني بوز
على المستوى الشخصي، ليست لدي تجربة طويلة في ممارسة مهنة المحاماة، مهنة النبل والشهامة والشجاعة كما يحب المنتمون إليها تسميتها، وعندما تكون لديك تجربة طويلة فيها، فهذا يعني أن عليك أولا أن تكون قد قضيت في ممارستها أكثر من ثلاثة عقود على الأقل..، وعندئذ، فمن الراجح أن تكون قد اكتسبت من الحكمة ما لا يمكن أن يكتسبها أي شخص، كيفما كان، يمارس مهنة أخرى غير مهنة المحاماة.
ولفهم هذا واستيعابه، فإن الأمر يبدو بسيط كفاية، ذلك أنه في اليوم الواحد، قد تطّلع على أكثر من قصة واحدة من القصص الإنسانية أو من تجارب أشخاص، بعضها يختلف عن بعض، وهي على عكس القصص السينمائية التي تعتبر خيالية، فإن هذه القصص واقعية ومعاشة، تقوم أنت كمحام بدراستها والتفكر فيها، والتأثر بها بكل جوارحك ومشاعرك وقواك العقلية، وبذلك، وعند هذا المستوى، لا محالة ستشعر كما لو أنك فعلا عشت هذه القصص كأنك أنت المعني بالأمر، ومن المؤكد حينها، أنك ستستفيد منها بطريقة جد إيجابية، فتصبح أكثر من شخص، بل تصبح أنت كل الشخوص الذين عالجت قضاياهم ودافعت عنهم، وفي المحصلة تصبح أكثر حكمة..
وما يضاف إلى هذا، وهو عامل نفسي محض، هو أنك في الوقت الذي يكون فيه أطراف القضايا خائفون متوجسون وأفئدتهم سواء وقد وصلت إلى حناجرهم وهم ممتثلين أمام هيئات الحكم، يكون المحامي ندا لند مع هذه الهيئات، يرافع بكل جرأة، ويسأل بكل قوة، ويعبر عن رأيه في القضية دون أن تطاله أي مساءلة، فيكتسب عندها ثقة كبرى ومناعة يفتقدها غيره..
ولهذا السبب بالذات، وليس أسباب أخرى، تمنى من هم في مناصب كبرى من ناحية السلطة ومن ناحية ما هو مادي، أن لو كانوا محامون. ولا أدل على ذلك من كون أغلب زعماء العالم، ممن غيروا مسار تاريخ بلدان وأمم، امتهنوا وظيفة خدمة رسالة المحاماة. لتكون في حد ذاتها، هي رسالة بالفعل، تهتم بما هو معنوي وبما هو إنساني وليس ابتغاء ما هو مادي. ولو أنها كذلك، لأطرها ما يؤطر الأعمال التجارية، أي لخضعت لقوانين ممارسة التجارة، وليس قوانين أخرى خاصة، ليس على المستوى المحلي وحسب وإنما على المستوى العالمي الكوني.
وما يتلقاه المحامي نظير ما يقوم به لموكليه، هي في الأصل سميت بأتعاب وليس أجر أو راتب. والأتعاب اسم على مسمى، وإعطاؤها هذا الوصف لم يكن من قبيل الصدفة، وإنما كان عن سبق إصرار، وذلك حتى لا يتم الخلط بين ما يقوم به المحامي من خدمات وبين ما يقوم به التاجر من ممارسة تجارية، ليبقى المحامي محاميا والتاجر تاجرا، كل واحد منهما ينظمه قانون خاص كما سلف الذكر.
وإذا كان التاجر، ومنذ الأبد، يهدف إلى تحقيق الربح والثراء، فإن المحامي هو في الأصل هدفه سامي، هو خدمة الإنسانية وليس تحقيق كسب أو مطمح الثراء، لذا، ولهذه الأسباب، فإن الأول يؤدي الضريبة للدولة أما الثاني فتنتفي فيه الشروط الواجب توفرها لإلزامه بأداء ضريبة ما للدولة.
ولكن، فمع التطور الذي عرفته البشرية، فأصبحت مهنة المحاماة تمارس في إطار شركات مهنية، بعضها عابر للقارات، تحقق أرباحا جمة، وليس أتعابا، فقد أسال هذا لعاب الدولة فرأت لزاما عليها صياغة قوانين ضريبية تتماشى وخصوصية مهنة المحاماة خصوصا في الدول الديمقراطية التي تتوافر فيها ما يسمى بالعدالة الضريبية.
ومن بين شروط ما يسمى بالعدالة الضريبية، هو أن على الدولة أن توفر الظروف الواجب عليها توفيرها لمن تفرض عليهم الضريبة. فلا يمكن بأي حال من الأحوال، مثلا، أن تنتهج قوانين بلدان أخرى فتقوم بتطبيقها على بلدك مع وجود اختلاف كلي بين الدولتين، لا من ناحية الظروف ولا من ناحية الإمكانيات.
وعلى سبيل المثال لا الحصر، فأن تفرض على المحامين في المغرب، كما يريد وزير العادل الحالي أن يفعل، ضريبة ما سبقه إليها أحد في العالمين، استباقية حتى قبل أن يتحقق ربح، هذا إن جاز تسميته ربح بينما هو في الأصل أتعاب، من غير أن يضع هذا الوزير في الاعتبار أن ظروف فرض مثل هذه الضريبة بهذا الشكل غير متوفرة، فهذا قد يتصف بأوصاف أخرى أكبر وأخطر من وصفها تفتقد إلى العدالة.
فمنذ زمن، أصبحت مهنة المحاماة، خصوصا في المغرب، قبلة للدولة لكي تقلل من الاحتقان التي تتسبب فيه البطالة. وبهذا المفهوم، أصبح الإقبال عليها مكثفا، والنتيجة الحتمية المرئية على أرض الواقع كما هو حاصل بالضبط اليوم، هو أن البطالة التي أرادت الدولة تجنبها، فهي قد وقعت فيها مرة أخرى، ذلك أن المحامي أصبح بدوره عاطلا عن العمل رغم أنه محامي. إذ أصبح العرض أكثر من الطلب، مما يعني بمفهوم اقتصادي، وجود عجز وتضخم، الشيء الذي ينذر بأزمة خانقة.
وربما قد تكون الدولة، في عمقها، واعية بهذه الفرضية، حيث كان جميع من تقلد كرسي وزارة العدل من قبل، لم يتجرأ على اللجوء إلى ما لجأ إليه وزير العدل الحالي، الذي هو في الأصل محامي، لكنه محامي ثري، وأمين عام حزب ليس ككل الأحزاب المغربية، ويطمح بأن يكون في يوم ما على رأس الحكومة. فهو، أي هذا المحامي الوزير، بهذا الشكل قد يجعله هذا الطموح متحمس زيادة، وقد يبدو له كل شيء يقدم على فعله صحيحا مادام يخدم قضيته الخاصة، لكنه ربما لا يعلم أن الطموح المبالغ فيه قد يؤدي بصاحبه إلى ارتكاب زلل يؤدي ثمنها غاليا.
ولكي تشرعن وتسن قوانين، يتوجب أولا اتباع منهجية خاصة. تبتدئ أولا بالعادة أي العرف، ثم القضاء الذي يصحح هذا العرف، ثم يأتي بعد ذلك، كمرحلة أخيرة، القانون. وفوق هذا فإن الفائدة ليست بكثرة القوانين والتشريعات والإفراط في تعديلها إلى حد الهوس، ذلك أن اكبر حضارة عرفها التاريخ، وهي حضارة المملكة المتحدة، تعتمد العرف والعادة في أسمى قوانينها، الذي هو الدستور.
أما في المغرب، الدولة المتخلفة، الأكثر إصدارا وتشريعا للقوانين، فهي مع ذلك كله، الجريمة جد مرتفعة فيها، ليظهر أن السر ليس في كثرة القوانين، وإنما في أمور أخرى على وزير العدل فهمها والبحث عنها، هذا إن كانت له الإرادة في الفهم وفي البحث..