نعيمة الواجيدي
المجاز المرسل هو ما كانت فيه العلاقة بين المعنى الأصلي والمعنى المجازي للفظة غير المشابهة، وقد سمي مرسلا، لأنه لم يقيد بعلاقة واحدة، وإنما تكون له علاقات متعددة، تفهم من خلال السياق النصي الذي يرد فيه.
وقد تعددت صور المجاز المرسل وعلاقاته في القرآن الكريم، وإذا كان بعض من يتعرض إلى أسلوب المجاز المرسل، يكتفي بتحديد العلاقة فيه، كالسببية والجزئية والكلية، فإننا نرى أن الوقوف الآلي على هذه العلاقات، لا يسعف في إدراك المعاني المكنوزة في المجازات المرسلة في القرآن، وسنقف على بعضها، محاولين إبراز المعاني المضمنة فيها. ومن المجاز المرسل في كتاب الله، قوله تعالى في الآية 112من سورة البقرة:"بلى من أسلم وجهه لله، وهو محسن، فله أجره عند ربه"
ويظهر المجاز المرسل في جملة، أسلم وجهه لله، فالمقصود هو الذات كلها، والعلاقة بين وجه الإنسان وذاته هي الجزئية، وقد دل الوجه على الجسم بكامله، لأن الوجه هو عنوان الشخص، وهو أكرم أعضاء الجسم، وهو يشتمل على الحواس التي يدرك بها الشخص العالم، والتي تمكنه من الرؤية والكلام والسمع والشم، فإذا خضع هذا الوجه لله، كان غيره من جوارح الجسم أحرى بالخضوع والاستسلام،لا سيما أن إسلام الوجه لله يعني التذلل له وطاعته والامتثال له، والوجه، بما يملك من قدرة تعبيرية، أحرى بأن يعبر عن معاني الاستسلام والإذعان لله تعالى.
يقول تعالى في سورة العلق "فليدع ناديه، سندعو الزبانية، كلا لا تطعه واسجد واقترب "الآيات 18\19\20
ويرى الزمخشري أن الضمير يعود على أبي جهل الذي مر على الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو يصلي، فقال له ألم أنهك عن الصلاة؟ فأغلظ له الرسول القول، فأجابه أبوجهل: "أتهددني وأنا أكثر أهل الوادي ناديا؟"
ويظهر المجاز الأول في استعمال لفظة النادي بدلا من المنتدين أو المجتمعين فيه، والعلاقة في هذا المجاز هي المحلية، لأن النادي محل اجتماعهم، وقد ورد في لسان العرب، في مادة ندى، أن النادي هو المجلس، ماداموا مجتمعين فيه...وبه سميت دار الندوة بمكة التي بناها قصي. فما وجه البلاغة في استعمال النادي، بدلا من المجتمعين فيه؟ يفيد السياق النصي الذي اقتطفنا منه المثال أن الحديث عن أبي جهل، جاء في سياق التحدي، ولهذا فإن توظيف النادي يفيد معنى الشمول، أي إنه يشمل كل الأعضاء الذين يجتمعون في دار الندوة، وهم من وجوه قريش وأشرافها، فهؤلاء جميعا لن يعجزوا الله في شيء، ولهذا جاء جواب الشرط قويا في دلالته"سندعو الزبانية"، وهم ملائكة العذاب المعروفون بشدتهم وغلظتهم. ويأتي المجاز المرسل الثاني في سياق تحدي الله تعالى لأبي جهل، ودعوته نبيه إلى الثبات على موقفه وعدم طاعة أبي جهل، بالمداومة على الصلاة، ويتمثل في فعل الأمر"اسجد"، وهو مجاز علاقته الجزئية، لأن السجود جزء من الصلاة، وتنبع بلاغة هذا المجاز من تعبيره عن القرب من الله تعالى، لأن السجود هو الفعل الذي يعبر عن منتهى خضوع العبد لخالقه، وعن إحساسه بأنه قريب منه، وعن مناجاته إياه بما يضمر في نفسه، وقد أوحت الآية بهذه المعاني، حين أردف فعل السجود بفعل الاقتراب، وهذا ما عبر عنه الحديث الشريف"أقرب ما يكون العبد إلى ربه، إذا سجد".
ومن المجازالمرسل في القرآن الكريم، قوله تعالى، في الآية66من سورة الأحزاب، متحدثا عن مصير الكافرين"يوم تقلب وجوههم في النار، يقولون يا ليتنا أطعنا الله وأطعنا الرسولا"، وهو مجاز علاقته الجزئية، فقد ذكرت وجوه الكافرين، والمقصود أجسامهم كلها، وتظهر بلاغة هذا المجاز في أنه تعالى خص الوجه بالعذاب، وبين كيف يقلب في النار، إمعانا منه في إذلال الكافرين، لأن الوجه أشرف أعضاء الجسم وأكرمها، ومنه أخذت معاني الوجيه والوجاهة، وهي تدل على الشرف،وما يؤكد أن الإنسان يعتبر الوجه أشرف جوارحه، هو حرصه عليه أثناء السقوط، واحتماؤه بجوارحه الأخرى، حفظا له من الأذى، ثم إن الوجه يضم أعضاء شديدة الحساسية كالعينين والأنف، ولنا أن نتخيل مدى الألم الذي يشعر به الكافر، حين تقلب هذه الأعضاء المرهفة في النار الحامية المضطرمة.
ونختم بمجازين مرسلين من سورة نوح، أولهما قوله تعالى متحدثا عن نوح عليه السلام:"قال، رب إني دعوت قومي ليلا ونهارا، فلم يزدهم دعائي إلا فرارا، وإني كلما دعوتهم لتغفر لهم، جعلوا أصابعهم في آذانهم، واستغشوا ثيابهم، وأصروا واستكبروا استكبارا". يظهر المجاز في قوله تعالى، جعلوا أصابعهم في آذانهم، وهو مجاز علاقته الكلية، لأن الأصابع كل، والأنامل جزء منها، وحين نتأمل هذه الآيات، ندرك أن نوحا لم يأل جهدا في دعوة قومه إلى التوحيد، ولكنهم واجهوا هذه الدعوة المتواصلة بإصرارهم على الكفر، ولهذا فإن وضع الإصبع في الأذن، يعبر بقوة عن رفضهم سماع ما يدعوهم إليه نوح، فإصرارهم على ألا يسمعوا دعوة الحق كبير جدا، فلو أنهم استطاعوا أن يدخلوا أصابعهم في آذانهم لفعلوا، وما يعضد هذه المعاني هو كناية "استغشوا ثيابهم"، أي غطوا رؤوسهم بثيابهم كي لا يسمعوا نوحا ولا ينظروا إليه.
بعد أن تأكد نوح عليه السلام من عجزه عن هداية قومه، دعا عليهم:"وقال نوح رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا، إنك إن تذرهم يضلوا عبادك، ولا يلدوا إلا فاجرا كفارا". ويظهر المجاز المرسل في جملة، ولا يلدوا إلا فاجرا كفارا، والعلاقة فيه هي اعتبار ما سيكون عليه هؤلاء المولودون، حين يكبرون، فكيف وصفهم نوح بالكفر عند الولادة، والمولود يولد على الفطرة؟
لقد لبث نوح في قومه ألف سنة إلا خمسين عاما، فعرف طباعهم وأحوالهم، ويئس من هدايتهم، وعلم أن كل أب سيلقن ابنه ما نشأ عليه من كفر وشرك بالله، ولهذا فإن في وصفه الوليد بالكفر والفجور، دلالة قوية على يقينه المطلق بأن الأبناء سينهجون نهج آبائهم، لاسيما أنه أمضى من عمره ما يقارب ألف سنة في دعوته التي لم تجد من قومه إلا الرفض والاستكبار.
لعل هذا الوقوف العجل على المجاز المرسل في بعض آي القرآن الكريم، يجعلنا ندرك أن المجاز المرسل يكتسب بلاغته العميقة من قدرته على التعبير عن معان تؤدي وظيفة إقناعية، فتؤثر في المخاطب وتدفعه إلى التأمل والتدبر، هذا فضلا عن وظيفتها الجمالية التي لا تنكر.