الحسين بوخرطة
الحرارة ارتفعت إلى أعلى مستوياتها المعهودة في موسم الصيف. الاحتباس الحراري أفقد الناس صبرهم وحيويتهم ووأد آمالهم. الجو مكهرب وزوابعه الغبارية تكتسح الفضاء اكتساحا. النفوس الباحثة عن الأرزاق تكاد تختنق. الباعة المتجولون يتجلدون لعلهم ينجحون في إتمام مسار رحلتهم التجارية اليومية في أزقة المدينة. الكساد أصاب القدرة الشرائية للأفراد والجماعات. الشباب تائهون يتحركون بدون وجهة معلومة. الرجل المصهود بالحر مسجى كعادته على سريره. يتكبد عناء التفكير لتفادي الانشغال بواقع الشباب المر. لا يجد ضالته إلا في القراءة والكتابة. غاص في تأملاته وهو يلتهم سطور رواية شيقة. غاصت روحه في متواليات سردية مبهرة فنيا ودلاليا. لم يعد يبالي بلسعات الحر المضنية.
وهو يتصبب عرقا، انجذب بكل وجدانه للقوة الفنية التي اعتمدها كاتب الرواية لإخراج الأشياء والأحداث والأشخاص من دوامة الواقع المتنافر مع قانونه. امتصه سهاد وهو يفكر كيف أبدع الكاتب في ترصيف واقع جديد في بنية أخرى بمنطق فني لم يصادف مثله أبدا.
بغتة، سمع دقات عنيفة على باب منزله الحديدي. نزلت زوجته مفجوعة عابرة الأدراج من الطابق العلوي في اتجاه الباب. سقط أمامها أخوها باكيا ينوح كامرأة فقدت أعز ما لديها. حملق بنظراته القاسية في محياها ثم قال :"جردني الزمن يا أختى من كل شيء. همشتني بقسوة آفة الزبونبة. التيه وغربتي في وطني أفقداني معنى الحياة. بنيتي النفسية والجسدية والعقلية تهاوت واستسلمت للغبن المزمن. تَمَلَّصْتُ من عتاب ولوم أب أناني جاحد، فتوالت خطواتي، الواحدة تتسلط على الأخرى، إلى أن تلاطم كفي ببابكم. قصدته أختي لعل زوجك المثقف المعروف يتدخل لدى السلطات لعلهم يمنحونني عملا يخلصني من أفكار الشياطين التي تؤرقني".
تسمر الرجل واقفا متذمرا من حياته وحياة الآخرين. وضع روايته بعناية فائقة في مكان آمن. توجه إلى الباب محاولا التعسف على ابتسامة لعلها تسعفه للحفاظ على طاقته الإيجابية. حملق في محيى صهره، ثم طبطب على كتفه، فأردف قائلا:" علمتنا التجارب التاريخية يا صهري أن الحق ينتزع.. عليك أن تؤسس منذ الغد جمعية للمعطلين .. فلنعمل سويا من أجل تصميم أشكالا نضالية تعيد الاعتبار للشباب وحقهم في خيرات وطنهم. لا تدفعني أتوسل أو أتسول المسؤولين من أجلك. الحرص على دوام استقلالية الفاعل يقابله الجفاء. كن متأكدا أن الاعتبار الذي فقدته اليوم سينتفض لتحتضنك الحياة مجددا".