الرئيسية | أقلام حرة | في الحاجة إلى علال الفاسي

في الحاجة إلى علال الفاسي

بواسطة
حجم الخط: Decrease font Enlarge font
في الحاجة إلى علال الفاسي
 

وقد انقضت الآن خمسون سنة كاملة على رحيل علال الفاسي ، يكون من الواجب علينا أن نتساءل، أين نحن من أفكار هذ الرجل العظيم .وماذا فعلنا بها ؟،هل صناها وحفظناها ؟أم أننا على العكس من ذلك قد هجرناها وتركناها وراء ظهورنا؟، ثم لنا أن نفحص ايضا ما الذي تحقق منها لحزبه ووطنه وأمته، والأهم من هذا وذاك ، أن نرى إن كنا قد تملكنا منهج علال، واستوعبنا نموذجه الادراكي، كي تستمر دورة إنتاج الأفكار العلالية حية متجددة بيننا على الدوام بعقول المخلصين من "أبنائه" المتشبعين بمكنون إنتاجه الغزير ؟ . 

مما لاشك فيه أن تقليد إحياء ذكراه كل سنة يدخل في إطار الإجابة عن هذه الأسئلة ،فهو يرسخ الصلة بهذه الأفكار ، ويجدد العهد بتراثه الأدبي وبسيرته النضالية القويمة ، ويقوي إيمان وإرادة المنتسبين لمدرسته على الإخلاص للطريقة و متابعة المسيرة التي اختطها هذا الزعيم لنفسه ووطنه .بل هو الفرصة التي لاينبغي تفويتها بالنسبة لهم لممارسة فضيلة النقد الذاتي الأثيرة لديه .

 شعار هذه السنة : الوطنية عند علال الفاسي: فكر وممارسة، يختصر بالسهل الممتنع ماهو مطلوب لأجل الوفاء الصادق لعلال ، ذلك أن الوطنية كانت تمثل لب وأساس المشروع المجتمعي لدى هذا المفكر الفذ، والشاعر اللبيب ، والخطيب المفوه الذي عجز المشهد الحزبي والفكري المغربي أن يلد مثله إلى الآن، خصوصا وأنه أيضا السياسي الملتزم الذي عاش حيوات عدة في حياة واحدة، والذي نذر عمله وقريحته، وضميره للنهوض ببني وطنه. فكان أن نحت اسمه بحروف من ذهب في الوجدان المغربي كأيقونة سياسية وثقافية متفردة وسامقة في المقام ، 

كتابه الخالد النقد الذاتي، وغيره من الكتب ،كانت نبراسا أرشدنا كيف نصحو من غفوتنا ، وكيف نقاوم ونبني بمقاومتنا الوطن على أسس متينة ودائمة .علال كان يمارس الوطنية ببصيرة،ينظر لها ،يجلي عناصرها، ويربي عليها الأجيال التي تتلمذت عليه شعبيا وجامعيا وحزبيا، او حتى تلك التي قيض لها فيما بعد أن تتشرب بعد رحيله فكره الفياض من خلال كتبه . لقد كانت هذه الوطنية سمته وخلقه.إذ ليست لديه بالحالة الحماسية المنفلتة ، ولابالشعار البراق الذي يرفع لإلهاب حماس الجماهير ودفعها للتحرر من الاستعمار والظلم بشتى أنواعه، وإنما هي فكر وثقافة أولا واشتباك في نفس الآن عن طريق هذا الفكر والثقافة مع الواقع المتخلف لأجل نقضه و تغييره نحو الأحسن. هي وطنية علالية واعية عاقلة أصيلة منيعة محصنة تجاه الاستلاب والانحراف ،وطنية صدقة تمتح من معين الاسلام والعربية و الأمازيغية وكلةعناصر الشخصية المغربية المتخلصة من الشوائب . الوطنية في عقيدة علال، هي المنهج والعمق الحقيقي للشعب ومقياس قدرته على الصمود والاستمرار قويا متلاحما متماسكا .وطنية علال لم تكن فكرة في مقال ،أو رأيا في خطاب ، او حتى كتابا يقيده ،بل هي أن يدخل بهذه الفكرة ،وبهذا الرأي، وبهذا الكتاب غمار الميدان لكي يختبر تنظيراته جميعها ويرى هل بإمكانها أن تصبح واقعا معاشا من التنمية والتقدم والرفعة والإباء . وطنيته عملية جدا ، تربط المرجعية بالإنجاز على الأرض. فهو لم يكن أبدا يجلس في برج عال ينظر إلى الجماهير مثل المتكلفين والمتحذلقين من الكتاب و السياسيين ،وإنما كان يهب لمعانقتها، يمزج عرقها بعرقه،ويشير لها إلى حيث الخلل والدواء على حد سواء.كان رائدا،ورائدا لايكذب أهله أبدا .

  الوطنية عنده إذن هي ما وقر في القلب من حب للبلاد وللدين ولثوابت الوطن ،وصدقه العمل من تفان في أداء الواجب ،وسعي للعلم والمعرفة ،وتنزيل للعدل والحرية والمساواة بين المواطنين ،وبعد عن فساد الضمير والذمة والأخلاق .

قيمة علال الفاسي بهذا المعنى ليست في كتبه وأشعاره فقط ،وإنما في المعارك التي خاضها،والآفاق التي خلقها ورسمها، وفي الآمال العظيمة التي لازال يقدحها ويضرمها في وجدان كل من يقرأ له . هذه المعارك والآمال كتب أخرى ينبغي لها أن تكتب نيابة عنه وتروى للأجيال التي تلته. 

 وطنية علال هي الدين الواعي الاجتهادي المستنير غير المتهافت على الإيديلوجيات الدخيلة.  

هي أيضا في الاستمداد والنهل من الحداثة التي كان يطلق عليها اسم العصرية بما يوافق سياقنا وحاجتنا ولايصادم هويتنا ،وعلى هذا الأساس لو كان علال الفاسي حيا يرزق الآن ،هل كان سيقف مكتوف الفكر أمام العديد من تشوهات النقاش والتفكير، مما نعاين الآن من بعض مدعي الثقافة ، الذين تكلموا وابتدعوا في كل صغيرة وكبيرة ،ولو كان بينهم أمثال علال ماكانوا لينبسوا.

الوطنية عند علال هي القدرة على التوقع للوطن ، على استبصار كيف سيكون حال الوطن و ستكون المآلات ، عند البدء حين نضع البرنامج ونصوغ النظرية .فعلال فكر في إنسان مابعد الاستقلال ،والاستعمار في أوج تجبره. وهذا ما يعوزنا الآن، صدق التصور ونجاعته والمصداقية في الوعود ،وعدم التنكر والهروب من المشاكل والهموم الحقيقية للناس . 

كثيرة هي القضايا التي اشتغل عليها علال : الصحراء المغربية،المغرب العربي، مقاصد الشريعة ودورها داخل المجتمع ، القضية الفلسطينية.الصحة ،العدل ،المعاقون،الأسرة.... لقد كانت له الملاءة الفكرية والنضالية معا لكل هذه الجبهات،حتى لأنه توفي رحمه الله برومانيا وهو يمارس وطنيته بالدفاع عن فلسطين والصحراء، 

لم يكن علال ذاك السياسي الذي غايته المنصب ،وإنما السياسي الذي يجعل من موقعه وسيلة لخدمة الوطن. .كان يحلم بثورة مجتمعية وبنهضة قوية للمغرب .ولذلك كان يعتبر أن إصلاح الأفكار هو أول خطوة على هذا المضمار،وينظر للثقافة الوطنية باعتبارها وعيا بالتاريخ وبالحاضر وبالأخطار والتحديات و بآمال المستقبل ،وشرطا قبليا لأية ممارسة نضالية تقوم بها النخبة في أي مجال من مجالات الحياة .هو الرجل الأمة الذي عاش الاستقلال والحرية بوجدانه وبصيرته ،والأمة لازالت مكبلة في أغلالها،فنظر لها دولتها الديمقراطية الوطنية، و سعى أن يؤسس لها لعصر أنوار يتفق وسياقها التاريخي و ينسجم وجيناتها الحضارية. لقد عاش الاستقلال بحواسه وخياله قبل أن يتحقق هذا الاستقلال.لأنه كان يثق في عبقرية ومعدن المغاربة .وهنا تكمن عظمة وفرادة الرجل.

   ما أشبه اليوم بالبارحة.ناضل علال ضد الاستعمار ،وهاهو الغرب يتربص بأمته الإسلامية مرة أخرى يريد اختراقها و تقطيعها وتفكيكها ومسخ قيمها من خلال استعمار ثقافي عولمي تقتعد فيه هي مكان التابع المستكين، وهاهي الحداثة التي دعا لها تختطف من بعض أشقياء الفكر و الثقافة ،وهاهو التخلف يعود متنكرا على صورة تفاهة وضحالة فكرية وثقافية وخيانة لوجدان ومزاج الأمة،

حقا إن الحاجة لماسة لك أيها الزعيم.فأنت متقدم بسنوات ضوئية عن كثير من النخبة الحالية مغربيا وعربيا ،و التي يسير بعضها في اتجاه فرض انتحار جماعي علينا بالدعوة الى التنكر لكينونتنا والخروج على ذاتنا العربية الإسلامية 

لقد "استبد" بك حزبك ،إذ أخذ البعض يتمثلك فيه فقط ،بينما انت أوسع من الجبة الحزبية الضيقة، ذلك ان هالتك السياسية ظلمت فيك فكرك الوقاد الذي اجده أفسح من فكري الإمام محمد عبده وطه حسين معا ،لأنه اجتمع فيك ماتفرق فيهما ، فليس "مستقبل الثقافة في مصر" مثلا إلا فصلا صغيرا من" النقد الذاتي". الآن وبعد نصف قرن من رحيلك ،آن لأفكارك أن تأخذ بعدها العربي والإسلامي الحقيقي الذي هو لها. .آن لمؤسسة علال الفاسي أن تنجز قفزتها الكبرى لتصبح منارة فكر علالية تسطع شمسها على العالم العربي والإسلامي وعلى الإنسانية جمعاء ، ذاك ان فكره بوصلة أخلاقية وإيديلوجية نحتاج لها الآن في هذا العالم المتقلب الشديد المحال الطافح بالشراسة والتعقيد، المتردي لقعر اللايقين، وذلك كي نستمر، و نقاوم كي نكون.

مجموع المشاهدات: 7176 |  مشاركة في:

الإشتراك في تعليقات نظام RSS عدد التعليقات (0 تعليق)

المجموع: | عرض:

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

التعليقات المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع

من شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات

مقالات ساخنة