أجدور عبد اللطيف
يحدث كثيرا أن يواجه الآباء أو الأوصياء على تربية الأطفال، مواقف تنتفي فيها الحلول وتتقلص هوامش التفكير عندما يتعلق الأمر بإقناع طفل بفعل شيء أو ترك فعل شيء، ومن ذلك مثلا إصراره على عادة قبيحة كالتلفظ بكلمات نابية يجد فيها استثارة للآخرين وجلبا لاهتمامهم، أو أكل مادة ضارة من تراب أو نحوه.. أو ربما امتناعه عن غسل الأسنان أو إنجاز الواجبات، أو رفضه المتكرر غسل يديه قبل الأكل أو تنظيف فاكهة أو إناء أو غيرها من السلوكيات الضارة به أو بغيره.
تتفاقم هذه المعضلة عندما تشمل سلوكيات أخطر، كالسرقة المتكررة والكذب المزمن، سيما عندما يصبح الأمر اعتيادا عند الطفل تذهب معه كل محاولات الإقناع والحوار والسياسة أدراج الرياح، فمع ضرورة استحضار الخصائص السيكولوجية للطفل ومراعاتها، إلا أن الأمر يصبح هوسا متعبا للأبوين كلما كبر الطفل، ويتحول إلى مشكلة مؤرقة تتفاقم مع الوقت، ويمكنها أن تلحق ضررا بالغا بالطفل وبأبويه في علاقتها به كذلك. حيث يكبر الطفل وتكبر معه تلك المشكلات ويصير الرفض يشمل أمورا أهم: الذهاب إلى المدرسة والامتثال للأساتذة ونظم المنزل، وتصبح السرقات أكبر والكذب أخطر.
يُلجأ في هذه الحالة، عادة، عند استنفاد كل المحاولات، إلى حل أخير هو التهديد والتخويف بمختلف أنواع العقاب، ويشمل مستويين أحلاهما مرّ، فإما أن يتم التهديد بتوقيع عقاب ما من ضرب أو تعنيف لفظي أو نحوه وهو الشائع، أو يتم التخويف بالحرمان من شيء يعتاد عليه الطفل كمنحه الإذن من أجل الخروج للعب مثلا، أو يُلجأ إلى التخويف من الأمور الغيبية، التي لا يدرك الطفل بعد ماهيتها ويرى منها أحيانا في بعض الأفلام الكرتونية، كالأشباح والعفاريت، ويتطور الأمر مع الوقت ليصبح هذا النوع من التهديد إدمانا عند بعض الآباء حيث يجدونه فعالا في حينه، سريعا في نتائجه لردع الطفل كما يلاحظ، خصوصا في سنواته العشر الأول، لكن ما يجهله هؤلاء أن آثار هذه التهديدات تضر بشكل عميق بنفسية الطفل، وتؤثر على طبيعة علاقته بنفس وبأبويه اللذان يُفترض أن يكونا مصدر أمانه، وبالمحيط من حوله الذي يصبح مصدر تهديد دائم.
إن أغلب الراشدين الذين يعانون من نوبات هلع مزمنة، أو أنواعا من الأمراض العصبية، وبعض الأزمات النفسية الشائعة كالاكتئاب، يكونون، غالبا، قد تعرضوا في صغرهم، لنوع من أنواع التخويف التي ذكرت. يرجع المتخصصون مثلا فوبيا الأماكن المغلقة Closephobie إلى معاناة الشخص من التهديد بالإغلاق عليه في مكان ما بشكل متكرر خلال الطفولة، أما الهلع من الظلام أو الحيوانات أو النار فكلها تعود إلى التهديد ب، وأحيانا لتعريض الطفل فعليا، للظلام أو النار أو بعض الحيوانات عقابا، يجعله ذلك مجبولا على الاضطراب الشديد كلما عرض له عارض من هذه الأشياء، في يشبه الهستيريا.
وتشير دراسة مستفيضة في الموضوع، صدرت عن جامعتي مكجيل وكيبيك بكندا سنة 2017م، إلى أن الأطفال والمراهقين الذين تعرضوا للتخويف الشديد، مما تمت الإشارة إليه، بدرجات مختلفة، معرضون أكثر من غيرهم من الأطفال للأمراض العقلية، والأزمات النفسية مثل الاكتئاب، وزيادة الأفكار الانتحارية، تبعا لانتفاء الشعور العام بالأمان، والعجز عن ربط تواصلات هادئة مع المحيط والآخر. ضمت الدراسة كذلك حالات من إيرلندا وفرنسا وروسيا وبريطانيا ومن مناطق وخلفيات اجتماعية مختلفة، ونشرت نتائجها في دورية Canadian Association Journal العلمية.
إنّ البعض يستغربون عند مصادفتهم لراشدين يخشون هذه العناصر، وليس مردها إلى غير التربية بالخوف وعلى الخوف، خوف يتعاظم مع الكبر ليصبح خوفا وهوسا من الآخر، ومن التجارب زواجا أو عملا أو استثمارا، ومن المطالبة بالحقوق، والتعبير عن الرأي، ومن الأقدار، ومن الإقدام، بل ومن الإقبال على الحياة.
يجدر بالمربين الانتباه بشدة لكل ما يتساهلون بشأنه أثناء تربية أبناءهم، والتركيز على استثمار ما تجود به النظريات التربوية في مسألة فلسفة العقاب، ولعل مبدأ العقاب عبر استعمال مبدأي الحرمان أو المكافأة من أنجع الوسائل، إذ يكفي حرمان الطفل من شيء يعتاد عليه مثل فترات اللعب، أو التنزه، أو مشاركته نشاطا اعتاده، كمشاهدة فيلم أو قراءة قصة، إن كان في عالم البشر اليوم من لا يزال يقرأ للأطفال، وهذه التقنيات مفيدة في علاج تلك المشاكل ما كانت مناسبة غير مفرطة، وما دام يصحبها دوما تذكير للطفل المعاقب، بكونه، وحده، يملك إمكانية استعادة ما حرم منه، متى قوّم ما اعوجّ من سلوكه.
ختاما، تقول القاعدة أن كل شيء يحقق نتائج سريعة غالبا ما يأتي بنتائج عكسية سيئة على المديين المتوسط والبعيد، فعملية التربية عملية بطيئة تراكمية تشبه عملية بناء برج، تتطلب وقتا وجهدا وصبرا، وبناء الإنسان أولى بجهد مديد وصبر عتيد.