مصطفى المريني
قبل نحو تسعة أشهر، دبجت مقالا على خلفية زيارة مبعوث الأمين العام للأمم المتحدة الى الصحراء المغربية ستيفان دي ميستورا الى جنوب افريقيا، في سياق مشاوراته مع أطراف النزاع الإقليمي المفتعل حول الصحراء المغربية. والمقال حمل عنوان (هل أضاع دي ميستورا بوصلة تكليفه؟).. ثم ما لبثت الأحداث أن كشفت أن الرجل، كان يفكر بإعادة تدوير فكرة فاشلة قال بها سلفه جيمس بيكر، وشجع عليها الرئيس الجزائري الأسبق عبد العزيز بوتفليقة عام 2002، ورفضها المغرب رفضا باتا، وتقوم الفكرة على أساس تقسيم الصحراء، ويبدو أن هذا المقترح تلقفه دي ميستورا من جنوب افريقيا والجزائر بهدف التأثير في مسار التسوية الأممي، والرجوع بالنزاع القهقرى، في محاولة لإفشال جهود التسوية.
والمثير في مقترح دي ميستورا، أنه جاء ليعاكس توجها دوليا متناميا ينحو منحى التكريس النهائي للحل السياسي الواقعي والعملي والتفاوضي، القائم على المبادرة المغربية للحكم الذاتي، ويفترض في مهمة دي ميستورا، كمبعوث خاص للأمين العام للأمم المتحدة أن تندرج في سياق هذه الديناميكية الدولية، من خلال العمل على اقناع الأطراف المعنية، ولاسيما الجزائر وصنيعتها جبهة (البوليساريو)، باستئناف المفاوضات عند النقطة التي توقفت عندها الجولة الثانية للموائد المستديرة في اطار العملية السياسية، وتمثل هذه المهمة جوهر التكليف المنوط بالمبعوث الأممي، وحتى على فرض أن دي ميستورا "مفوض" باجتراح "مقترحات"، فيفترض أن لا تخرج عن السياق الدولي العام للقضية، وخاصة في اطار مجلس الأمن الدولي الذي باتت قرارته في السنوات الأخيرة تنحو باتجاه تكريس الحل السياسي القائم على المفاوضات بين الأطراف الأربعة وهي: الجزائر، والمغرب، وموريتانيا وجبهة "البوليساريو"، مع التنويه بالمقترح المغربي للحكم الذاتي في الصحراء، علما أن دولتان عضوان في مجلس الأمن هما: الولايات المتحدة وفرنسا تعترفان بالسيادة المغربية على الصحراء، الى جانب أكثر من مئة دولة عبر العالم.
ودون شك، فإن لهذا الوضع، تأثير على مجمل القضية لصالح الوحدة الترابية للمغرب طبعا، وكان ينبغي على ممثل الأمين أن يأخذه بعين الاعتبار. فلماذا اذن أعرض دي ميستورا عن كل هذه المتغيرات، وانصرف لطرح مقترح متجاوز، ومرفوض ليس مغربيا فحسب، بل أيضا من الدول التي اعترفت بسادة المغرب على كامل صحرائه فضلا عن أنه مرفوض من لدن عقلاء المنطقة والعالم باعتبار أنه أي مقترح تقسيم الصحراء الآيل الى انشاء دويلة صغيرة في المنطقة من شأنه أن يفتح باب جهنم على المنطقة برمتها، فضلا عن تأثير ذلك على الأمن والسلم الإقليميين والدوليين، ولعل أول من سيصطلي بنارها هي الدولة التي تحرض على انفصال الصحراء المغربية، وهي الجزائر بسبب احتواءها على اثنيات ثقافية ونزعات عرقية لن تلبث أن تطالب باستقلالها وانشاء كيان سياسي خاص بها. هل لجوء دي ميستورا اذن الى هكذا مقترح هو للتغطية على فشله في اقناع الجزائر بالعودة الى المفاوضات، وهي المهمة الأساس التي يفترض أن يتجند لها؟، أم لأن الرجل أراد قبل أن يفرغ يديه من هذه المهمة أن يقدم خدمة لجهات ما؟. كل هذا وارد في ظل نزاع إقليمي ينطوي على مصالح أطراف وقوى إقليمية ودولية، خاصة وأن مقترح دي ميستورا تزامن مع قرار محكمة العدل الاوربية بخصوص اتفاقيتي الفلاحة والصيد البحري بين المغرب والاتحاد الأوربي، ما يدعو الى "المزيد من التعبئة واليقظة لمواصلة تعزيز موقف بلادنا والتعريف بعدالة قضيتنا والتصدي لمناورة الخصوم" كما قال جلالة الملك في خطابه الى أعضاء البرلمان بمناسبة افتتاح الدورة الأولى من السنة التشريعية الرابعة من الولاية التشريعية الحادية عشرة.
لكن، هل علينا أن نمهل المبعوث الأممي مزيدا من الوقت، خاصة بعد أن حدد مدة ستة أشهر لاستشراف الحل قبل ترك منصبه؟، أم على المغرب أن يطالب بسحب الثقة منه، تجنبا لأي مقترحات أخرى قد تغير مسار التسوية؟ للإنصاف، إن المبعوث الأممي لم يلح على مقترحه، أثناء تقديم احاطته أمام مجلس الأمن الدولي، وإنما أخبر المجلس بعرضه على الأطرف، وأن المغرب رفض المقترح جملة وتفصيلا، ولم يقدم دي ميستورا مقترحه كبديل لما هو مطروح حاليا، والحل الوحيد المطروح على طاولة الأمم المتحدة هي المبادرة المغربية للحكم الذاتي، التي ما تفتأ تحوز الاعتراف الدولي، سواء على مستوى قرارات مجلس الأمن، أو على مستوى اعتراف الدول، خاصة الكبرى بالمبادرة المغربية كإطار وحيد للحل السياسي تحت السيادة المغربية، وهو ما أكد عليه المبعوث الأممي في احاطته أمام مجلس الأمن، مبرزا الدعم الدولي للمبادرة المغربية معتبرا أن "الوقت قد آن لفهم واستكشاف تفاصيل المبادرة وامكانيات تطبيقها، ملتمسا من المغرب مزيد الشرح للمبادرة" وهو ما قد يفيد بأن المبعوث الأممي ينوي تكريس ما تبقى من ولايته في تمحيص المبادرة المغربية للحكم الذاتي في الصحراء، وبحث إمكانيات تطبيقها، وإقناع الجزائر وجبهة "البوليزاريو" بمناقشتها والبناء عليها، لكن مع ذلك، فإن اثارته لفكرة التقسيم من جديد، قبل التأكيد على أهمية المبادرة المغربية، وإمكانية التركيز عليها في الشهور المقبلة كأساس للحل السياسي، قد يفيد أن دي ميستورا بصدد التخطيط لاستعادة أفكار متآكلة، تقبل بالمقترح المغربي للحكم الذاتي، لكن كمنطلق فقط وليس كحل نهائي، وهذا ما ينبغي أن يتفطن له المغرب خلال لقاءاته المقبلة مع المبعوث الأممي.
واستباقا لهذه اللقاءات، يمكن للمغرب أن يدشن حملة إقليمية ودولية للتعريف بمبادرة الحكم الذاتي، وتبيان حدودها وآفاقها، وامكانياتها (الممكن منها والمستحيل)،لأن الملاحظ أن المغرب يمتنع حتى الآن عن مناقشة حيثيات وتفاصيل المبادرة، مرجئا ذلك الى حين قبول الأطراف بها كأساس للمفاوضات، لكن أعتقد أن المتغيرات باتت تملي ضرورة اتاحة المبادرة للنقاش العام، لتبيان أهميتها، وكذا حدودها، التي لا يمكن للمغرب أن يذهب أبعد منها، حتى لا يتجرأ المبعوث الأممي على اقتراح تأويلات تنزاح خارج المدى الذي تغياه المغرب من طرح المبادرة، فالمؤكد أن ثمة صيغ وتجارب متعددة للحكم الذاتي، لذا ينبغي على المغرب أن يطرح نموذجه أو نماذجه التي يقبل أن يتناقش حولها، ولايتجاوزها الى غيرها، لأنه يبدو أن المبعوث الأممي سيركز خلال ما تبقى من ولايته على تمحيص المبادرة المغربية، والبحث في ثناياها عن إمكانيات "التوازن" و"التوافق" فيما بين الأطراف، وهو أمر يبدو صعبا إن لم يكن مستحيلا في ظل تباعد الرؤى والمواقف، وكذا استمرار العداء المعلن من الجزائر.. لكن المبعوث الأممي مطالب بالواقع والقانون أن يأخذ في الاعتبار المعطيات التالية:- اعتراف نحو 110 دول بمبادرة الحكم الذاتي في الصحراء في ظل سيادة المغرب على كافة أراضيه في الأقاليم الجنوبية المعنية، ووجود 30 قنصلية في العيون والداخلة، وإقرار أمريكا وفرنسا العضوان الدائمان بمجلس الأمن الدولي بسيادة المغرب على صحرائه، بالإضافة الى اسبانيا التي كانت تستعمر المنطقة، فضلا عن الدول العربية والإسلامية ما خلا دولتين، والدول الافريقية باستثناء بضع دول، فالمفترض في مجلس الأمن وهيأة الأمم المتحدة والأمين العام والمبعوث الأممي بناء مواقفها على أساس هذه المتغيرات.