محمد لمقدم
إن التعامل مع الاختلاف هو تعامل مع أصل أصيل في الكون والحياة، وكل من حاول أن يواجه هذه الخاصة الوجودية يمثل حالة غيـر خَلقية في الحياة، ولذلك جاءت الشريعة متناغمة مع هذه الخاصة الوجودية، ومرشدة لها، ولم تأت منابذة لما هو مستقر في الكون والحياة.
إذا انطلقنا من هذا المنطلق، من كون الاختلاف في الشريعة هو الأصل من حيث كونها بنية قيمية وتشريعية، فإن كل متشوف لرفع الاختلاف في الشريعة هو مبطل لمنطقها ومفسد لروحها.
والاختلاف في الشريعة نوعان: اختلاف عال خارج الإسلام بين أرباب العقائد والنظم العقائدية المختلفة، واختلاف نازل داخل الإسلام نفسه. والاختلاف الداخلي ليس موضوعنا، فإذا انتقلنا إلى الخلاف العالي، خلاف المسلمين مع غيرهم وتركنا النازل هزتنا الآيات القرآنية هزا:
- الآية الأولى: ﴿وَإِنَّآ أَوِ اِيَّاكُمْ لَعَلَيٰ هُديً اَوْ فِے ضَلَٰلٖ مُّبِينٖۖ﴾ [سبأ: 24]
يتنازل عن الذات ليشتغل على الموضوع؛ لأن الآخر لا يسلم لك أنك على الحق فلذلك أنت بحاجة إلى أن تتجرد من ذاتيتك لتمنح الآخر حق المساءلة والاستدراك والرفض والتشكيك وحق إبطال معتقدك.
- الآية الثانية: ﴿قُل لَّا تُسْـَٔلُونَ عَمَّآ أَجْرَمْنَا وَلَا نُسْـَٔلُ عَمَّا تَعْمَلُونَۖ 25﴾ [سبأ: 25]
أنزل نفسه في ساحة الحوار منزلة المجرم، ولم يقل عما أجرمتم، وهذه قمة في الملاطفة الحوارية، واستيعاب الآخر واحتوائه، تقول له: اعتبرني مجرما ولكن من حقي أن أنفتح عليك على أنك أنت المحق، وصاحب الصواب، فأسمعني ما عندك، فهذا الشيء مهم جدا؛ لأن المنطق القرآني يؤسس لقيم إجرائية ومعرفية دقيقة جدا.
- الآية الثالثة: ﴿ وَلَوْلَا دِفَٰعُ اُ۬للَّهِ اِ۬لنَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٖ لَّهُدِمَتْ صَوَٰمِعُ وَبِيَعٞ وَصَلَوَٰتٞ وَمَسَٰجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اَ۪سْمُ اُ۬للَّهِ كَثِيراٗۖ﴾ [الحج: 38]
الوجود الإنساني بطبيعته تدافعي بحكم أصل اختلافيته؛ لأن المختلفين يتدافعون في عالم النظر، ويتدافعون في عالم العمل، ويمكن أن يكون هذا التدافع سلميا ويمكن أن يكون صراعيا، وللإسلام كلمته في كلتا الحالتين.
فالتدافع هنا عنوان قرآني منفتح على كل أنواع وأجناس العلاقة بالآخر، وهو أيضا -كما أسلفنا- تقرير وتوصيف لحالة طبيعية في الوجود البشري، وتوصيف القرآن حقيقة، لولا التدافع بين الناس لفسدت الارض، كأن التدافع من مقاصده المحافظة على التعددية الدينية له، قال تعالى: ﴿ لَّهُدِمَتْ صَوَٰمِعُ وَبِيَعٞ وَصَلَوَٰتٞ وَمَسَٰجِدُ﴾ أي تدافعوا حتـى تحققوا حماية الثـراء الإنساني، وتحققوا حماية الخبـرة البشرية، وحماية الاختيار البشري وهو اختيار متعدد.
- الآية الرابعة: ﴿۞كَانَ اَ۬لنَّاسُ أُمَّةٗ وَٰحِدَةٗ فَبَعَثَ اَ۬للَّهُ اُ۬لنَّبِيٓـِٕۧنَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ اُ۬لْكِتَٰبَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ اَ۬لنَّاسِ فِيمَا اَ۪خْتَلَفُواْ فِيهِۖ وَمَا اَ۪خْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا اَ۬لذِينَ أُوتُوهُ مِنۢ بَعْدِ مَا جَآءَتْهُمُ اُ۬لْبَيِّنَٰتُ بَغْياَۢ بَيْنَهُمْۖ فَهَدَي اَ۬للَّهُ اُ۬لذِينَ ءَامَنُواْ لِمَا اَ۪خْتَلَفُواْ فِيهِ مِنَ اَ۬لْحَقِّ بِإِذْنِهِۦۖ وَاللَّهُ يَهْدِے مَنْ يَّشَآءُ اِ۪لَيٰ صِرَٰطٖ مُّسْتَقِيمٍۖ﴾ [البقرة: 211]
القرآن يقول ﴿ كَانَ اَ۬لنَّاسُ أُمَّةٗ وَٰحِدَةٗ ﴾ أي في البدء كان أمة واحدة فاختلفوا فلما اختلفوا بعث ﴿ اَ۬للَّهُ اُ۬لنَّبِيٓـِٕۧنَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ اُ۬لْكِتَٰبَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ اَ۬لنَّاسِ فِيمَا اَ۪خْتَلَفُواْ فِيهِۖ ﴾. وظيفة النبوات والرسالات هي حفظ الأصول القيمية وتمكين الإنسان من المعايير القيمية التـي لا ينبغـي أن يتلاعب بها المفسدون من المستأثرين بالسلطة والثـروة على الصعيد العالمي حتى لا يعبثوا بهذه القيم.
- الآية الخامسة: ﴿يَٰٓأَيُّهَا اَ۬لنَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَٰكُم مِّن ذَكَرٖ وَأُنث۪ـيٰ وَجَعَلْنَٰكُمْ شُعُوباٗ وَقَبَآئِلَ لِتَعَارَفُوٓاْۖ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اَ۬للَّهِ أَتْق۪يٰكُمُۥٓۖ إِنَّ اَ۬للَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٞۖ﴾ [الحجرات: 13]
التعارف مطلب أخلاقي ومطلب شرعي، والقرآن يطالبنا بالتعارف؛ لأن المدخل الطبيعـي للحسم في كل أشكال المنازعات المعرفة ﴿ لِتَعَارَفُوٓاْۖ﴾ فرشح المعرفة أداة ووسيلة وآلية لتخفيف الخلاف وتهذيبه أو لامتصاص حالات الانفعال الغضبي بدافع المعتقد أو بدافع المنفعة والمصلحة.
- الآية السادسة: ﴿إِنَّآ أَنزَلْنَا اَ۬لتَّوْر۪يٰةَ فِيهَا هُديٗ وَنُورٞ يَحْكُمُ بِهَا اَ۬لنَّبِيٓـُٔونَ اَ۬لذِينَ أَسْلَمُواْ لِلذِينَ هَادُواْ وَالرَّبَّٰنِيُّونَ وَالَاحْبَارُ بِمَا اَ۟سْتُحْفِظُواْ مِن كِتَٰبِ اِ۬للَّهِ وَكَانُواْ عَلَيْهِ شُهَدَآءَۖ فَلَا تَخْشَوُاْ اُ۬لنَّاسَ وَاخْشَوْنِۖ وَلَا تَشْتَرُواْ بِـَٔايَٰتِے ثَمَناٗ قَلِيلاٗۖ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ اَ۬للَّهُ فَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ اُ۬لْكَٰفِرُونَۖ 46 ۞وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَآ أَنَّ اَ۬لنَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالَانفَ بِالَانفِ وَالُاذْنَ بِالُاذْنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٞۖ فَمَن تَصَدَّقَ بِهِۦ فَهُوَ كَفَّارَةٞ لَّهُۥۖ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ اَ۬للَّهُ فَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ اُ۬لظَّٰلِمُونَۖ 47 وَقَفَّيْنَا عَلَيٰٓ ءَاثٰ۪رِهِم بِعِيسَي اَ۪بْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقاٗ لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ اَ۬لتَّوْر۪يٰةِۖ وَءَاتَيْنَٰهُ اُ۬لِانجِيلَ فِيهِ هُديٗ وَنُورٞ وَمُصَدِّقاٗ لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ اَ۬لتَّوْر۪يٰةِ وَهُديٗ وَمَوْعِظَةٗ لِّلْمُتَّقِينَۖ 48 وَلْيَحْكُمَ اَهْلُ اُ۬لِانجِيلِ بِمَآ أَنزَلَ اَ۬للَّهُ فِيهِۖ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ اَ۬للَّهُ فَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ اُ۬لْفَٰسِقُونَۖ 49 وَأَنزَلْنَآ إِلَيْكَ اَ۬لْكِتَٰبَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاٗ لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ اَ۬لْكِتَٰبِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِۖ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَآ أَنزَلَ اَ۬للَّهُ وَلَا تَتَّبِعَ اَهْوَآءَهُمْ عَمَّا جَآءَكَ مِنَ اَ۬لْحَقِّۖ لِكُلّٖ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةٗ وَمِنْهَاجاٗۖ وَلَوْ شَآءَ اَ۬للَّهُ لَجَعَلَكُمُۥٓ أُمَّةٗ وَٰحِدَةٗ وَلَٰكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِے مَآ ءَات۪يٰكُمْۖ فَاسْتَبِقُواْ اُ۬لْخَيْرَٰتِۖ إِلَي اَ۬للَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاٗ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَۖ﴾ [المائدة: 46-50]
والذي يهمنا هنا هو البعد القيمـي ﴿ إِنَّآ أَنزَلْنَا اَ۬لتَّوْر۪يٰةَ فِيهَا هُديٗ وَنُورٞ﴾ بعد ذلك ﴿ وَقَفَّيْنَا عَلَيٰٓ ءَاثٰ۪رِهِم بِعِيسَي اَ۪بْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقاٗ لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ اَ۬لتَّوْر۪يٰةِۖ وَءَاتَيْنَٰهُ اُ۬لِانجِيلَ فِيهِ هُديٗ وَنُورٞ وَمُصَدِّقاٗ لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ اَ۬لتَّوْر۪يٰةِ وَهُديٗ وَمَوْعِظَةٗ لِّلْمُتَّقِينَۖ﴾ أضيف إلى الإنجيل التصديق من الناحية التاريخية، وأضيف إليه الخاصية المعرفية، الانجيل كما أنزله الله جاء مصدقا لما بين يديه من التوراة، ولما تكلم القرآن عن القرآن قال: ﴿ وَأَنزَلْنَآ إِلَيْكَ اَ۬لْكِتَٰبَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاٗ لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ اَ۬لْكِتَٰبِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِۖ ﴾، إنه مصدق وفي نفس الوقت أضيفت الهيمنة، الخاصية الكونية العالمية للإسلام.
ولذلك أذكر هنا أن هناك مشتركا دينيا يشكل قاعدة للانطلاق والبحث عن القيم في كليتها، ولذلك أصوليو هذه الأمة لم يشردوا عن هذه الحقيقة، عندما تكلموا عن روح الأحكام والتكاليف قالوا بأن الشريعة كما هو مصرح به في الأدبيات المقاصدية والأصولية جاءت لحفظ الكليات الخمس، وهذه الكليات مرعية ومحفوظة في سائر الملل والنحل، وهذا يشكل منطلقا للتساكن الحضاري وقاعدة للتعايش العالمي.
قال الغزالي: «وتحريم تفويت هذه الأصول الخمسة والزجر عنها، يستحيل أن لا تشتمل عليه ملة من الملل وشريعة من الشرائع التي أريد بها إصلاح الخلق. ولذلك لم تختلف الشرائع في تحريم الكفر والقتل والزنا والسرقة وشرب المسكر» .
وقد أكد هذا المعنى القرافي بقوله: «الكليات الخمس: حفظ الدماء والأعراض والأنساب والعقول والأموال، وأنواع الإحسان كإطعام الجوعان وكسوة العريان، وغيـر ذلك مما لم تختلف فيه الشرائع» .
وقال ابن العربي: «ولم يخل زمان آدم ولا زمن من بعده من شرع، وأهم قواعد الشرائع حماية الدماء عن الاعتداء وحياطته بالقصاص كفاً وردعا للظالمين والجائرين. وهذا من القواعد التـي لا تخلو عنها الشرائع والأصول التي لا تختلف فيها الملل» .
وقال الشاطبي: "اتفقت الأمة بل سائر الملل على أن الشريعة وضعت للمحافظة على هذه الضـروريات الخمس، وهي: الدين، والنفس، والنسل، والمال، والعقل" .
المصحف الشريف، برواية ورش عن نافع.
• أحكام القرآن، القاضي محمد بن عبد الله أبو بكر بن العربي المعافري الاشبيلي المالكي (ت 543ه)، راجع أصوله وخرج أحاديثه وعلَّق عليه: محمد عبد القادر عطا، دار الكتب العلمية، بيروت – لبنان، الطبعة الثالثة، 1424 هـ - 2003 م.
• شرح تنقيح الفصول، أبو العباس شهاب الدين أحمد بن إدريس بن عبد الرحمن المالكي الشهير بالقرافي (ت 684ه)، تحقيق: طه عبد الرؤوف سعد، شركة الطباعة الفنية المتحدة، الطبعة: الأولى، 1393 هـ - 1973 م
• المستصفى، أبو حامد محمد بن محمد الغزالي الطوسي (ت 505هـ)، تحقيق: محمد عبد السلام عبد الشافي، دار الكتب العلمية، الطبعة: الأولى، 1413هـ - 1993م.
• الموافقات، أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي (ت 790 ه)، تحقيق: أبو عبيدة مشهور بن حسن آل سلمان، تقديم بكر بن عبد الله أبو زيد، دار ابن عفان، الطبعة الأولى، 1417 هـ - 1997 م