عبده حقي
إن منطقة المغرب الكبير، التي تربطها عبر التاريخ الطويل والعريق مرجعيات ومصائر متشابكة، تجد نفسها اليوم على حافة خلافات عميقة وخطيرة على أمنها العام . فقد أدت الإجراءات الأخيرة التي اتخذتها سلطات الجزائر، والتي اتسمت باستفزازات صريحة وواضحة ضد المغرب، إلى تفاقم التوترات الملتهبة بين الأشقاء في شمال إفريقيا. وتشكل التداعيات المترتبة على هذه الإجراءات خطر تقويض المبادئ الأساسية التي قام عليها اتحاد المغرب الكبير، وكشف التناقضات بين التزامات الجزائر بموجب المعاهدات الدولية وسياساتها الداخلية والخارجية. إن هذه الأزمة المتصاعدة تستحق مزيدا من التدقيق، وخاصة في ضوء الدور الذي أصبحت تلعبه الجزائر في دعم الحركات الانفصالية والعواقب الواسعة النطاق على استقرار المنطقة .
آخر هذه الاستفزازات والمناورات البغيضة استضافت الجزائر في يوم السبت 23 نونبر 2024 ، مؤتمرا صحفيا ترأسه أشخاص يدعون أنهم يمثلون حركة انفصالية بمنطقة الريف شمال المغرب. وعلى الرغم من أن هذا الحدث كان في ظاهره مجرد صورة مقيتة وخبيثة لتحدي سيادة المغرب، فقد تعرض لانتقادات واسعة النطاق باعتباره استفزازا بحسابات مبيتة ودقيقة . وقد لاحظ المراقبون ذلك الافتقار إلى التأثير الذي حققه ذلك الاجتماع المشبوه ، ووصفوه بأنه مشهد من مسرحية وكوميدية فاشلة . فمن خلال منح مصداقية لمثل هذه الأصوات الانفصالية المعزولة والممولة من أموال الشعب، أشارت الجزائر بوضوح إلى استعدادها لتقويض سلامة وحدة الأراضي المملكة المغربية - وهي الخطوة التي تثير تساؤلات حول التزامها بمبادئ الاستقرار الإقليمي والاحترام المتبادل المنصوص عليها في معاهدة مراكش لعام 1989.
إن معاهدة مراكش، التي وقعت في عام 1989 لتأسيس اتحاد المغرب الكبير، تلزم الدول الأعضاء ــ الجزائر والمغرب وتونس وموريتانيا وليبيا ــ باحترام سيادة بعضها البعض والامتناع عن دعم الأنشطة التي تهدد استقرار جيرانها الأشقاء . ومع ذلك، كشفت تصرفات الجزائر عن انحراف صارخ عن هذه المبادئ العظمى. فبالإضافة إلى استضافة الأنشطة الانفصالية التي تستهدف وحدة المغرب، قدمت الجزائر منذ فترة طويلة الدعم المادي والدبلوماسي لصنيعتها جبهة البوليساريو. وتمثل هذه التصرفات الدنيئة ، إلى جانب تأييدها الضمني لمبادرات أخرى هدفها زعزعة الاستقرار، تناقضاً واضحاً مع التزاماتها بموجب المعاهدة السالفة الذكر.
إن دعم الجزائر للحركات الانفصالية لا يقتصر على التحريض عن بعد فحسب ؛ بل يشمل موارد مالية ولوجستية ضخمة. فقد أفادت التقارير السرية أن بلاد الكابرانات قد ضخت مبالغ ضخمة لدعم صنيعتها جبهة البوليساريو منذ نصف قرن، ويبدو الآن أنها تقدم دعماً مماثلاً لفصائل انفصالية أخرى تستهدف الكيان الموحد للمملكة المغربية . وتشكل مثل هذه النفقات مصدراً للنقاش بشكل خاص في ضوء التحديات والقلاقل الداخلية التي تواجهها الجزائر، بما في ذلك الصعوبات الاقتصادية، وارتفاع البطالة بين الشباب، والسخط المتزايد بين جميع سكانها. ويؤكد المعارضون هناك أن هذه السياسات تعطي الأولوية للأجندات الإيديولوجية التخريبية على حساب رفاهة المواطنين ، الأمر الذي يحول الموارد بعيداً عن الاحتياجات الوطنية الملحة.
وعلاوة على ذلك، تأتي هذه الاستفزازات الخارجية الجزائرية على خلفية عدم الاستقرار الداخلي. فقد كانت منطقة القبائل، التي تمثلها حركة تقرير المصير (الماك)، شوكة دائمة في خاصرة النظام الديكتاتوري. وتعكس دعوات حركة تقرير مصير القبائل للاستقلال عن الجزائر الطموحات الانفصالية ذاتها التي تدعمها الجزائر في مناطق أخرى، الأمر الذي يكشف عن تناقض صارخ في سياستها الخارجية. ومن خلال تأييد الحركات الانفصالية في الخارج وقمع التطلعات المماثلة في الداخل، تخاطر الجزائر بتدهور مصداقيتها على المستويين المحلي والدولي.
وفي قلب الموقف العدواني للجزائر يكمن نظام الرئيس عبد المجيد تبون، الذي تعكس سياساته استراتيجية أوسع نطاقا لصرف الانتباه عن هشاشة الأوضاع الداخلية حيث تواجه النخبة الحاكمة ضغوطا متزايدة من السكان الذين يشعرون بخيبة أمل متزايدة إزاء الفساد والركود الاقتصادي والقمع السياسي. وفي هذا السياق، يعمل تأجيج الصراعات الخارجية كأداة فعالة لتحويل الانتباه، وحشد المشاعر القومية مع صرف الانتباه عن إخفاقات زمام الحكم الداخلي.
ولكن هذه الاستراتيجية تنطوي على مخاطر كبيرة. فلم تكتف الاستفزازات الجزائرية بإثارة انتقادات المراقبين الدوليين، بل إنها حفزت أيضا عزم المغرب على الدفاع عن سيادته من طنجة شمالا إلى الكويرة جنوب الصحراء المغربية . وقد عززت الدبلوماسية الاستباقية للمغرب، إلى جانب شراكاته الاقتصادية واستثماراته في أفريقيا، من مكانته على الساحة العالمية. وعلى النقيض من ذلك، تهدد سياسات الجزائر الانعزالية بتنفير حلفائها المحتملين وخصوصا إيران وروسيا وإضعاف نفوذها الإقليمي.
إن التداعيات المترتبة على تصرفات الجزائر تمتد إلى ما هو أبعد من علاقاتها الثنائية مع المغرب. ذلك أن منطقة المغرب الكبير، التي تعاني بالفعل من التحديات الاقتصادية والتهديدات الأمنية، من المرجح أن تعاني من تراجع الثقة والتعاون بين أطرافها. وقد يؤدي شلل اتحاد المغرب الكبير إلى حرمان الدول الأعضاء فيه من فرص المشاريع الاقتصادية المشتركة، وتطوير البنية الأساسية، والاستجابات الجماعية للقضايا العابرة للحدود الوطنية مثل الهجرة والإرهاب.
وبالنسبة للمغرب، فإن الحفاظ على زخمه الدبلوماسي المتقدم وتعزيز تحالفاته التقليدية والحديثة سيكونان أمرين حاسمين في مواجهة استفزازات الجزائر. ومن خلال الاستمرار في الاستثمار في التنمية الاقتصادية والشراكات الإقليمية، يمكن للمغرب أن يستمر في مسيرته الموفقة بقيادة الملك محمد السادس كقوة استقرار في المغرب الكبير، وتعزيز دوره كقائد في الشؤون الأفريقية والعالمية.