جواد فهمي
عقارب الساعة تراوح الخامسة، انتهت صلاة الصبح، توجهت إلى المحطة الطرقية باحثا عن حافلة في اتجاه تاونات، كانت خيبتي كبرة وأنا أنظر لحافلة متآكلة صاحبها بدوره تائه !! غيرت المحطة راجيا إيجاد أخرى تكون أفضل، تذكرت محطة باب الفتوح، قصدت طاكسي صغيرة لها مكان مخصص معروف بقرب باب بوجلود .. هنا تبدأ فصول الحكاية، أربع ركاب !! نظرتي إليه كانت كافية ليرمي عبارة ''الزمان صعيب أخاي ...'' وصلنا لمحطة الحافلات باب الفتوح، نظرت للحافلات هناك فإذا بها تتشابه... إنه زمن العدل والمساواة !!! استسلمت واستقليت إحداها، تناسيت رداءة المركوب بالنظر لجمال ما جاد به فصل الربيع ... حكايات وطرائف كثيرة بالحافلة قد أحكي لكم بعضا منها في مستقبل الأيام... تصفحت كتابا لي ومزجت متعة القراءة مع بداية الصباح الأخضر الجميل...
التاسعة صباحا أتواجد بإحدى الملحقات الإدارية بتاونات، وأنا ألج بابها أسمع من بعيد رسالة أراد صاحبها أن تكون قاصدة خفية ''ما زال ماجا تا واحد '' تجاهلت الأمر وولجت الملحقة، حينها لحق بي مسرعا :
ماذا تريد ؟
شهادة وفاة يا سيدي ..
تحتاج للمقدم أو الشيخ
أكتفي بنظرات ... ينادي حينها على أحدهم لم يجعل من مقر العمل مكانا لتواجده، أخبره بالأمر، يلتحق بمقر عمله، لم أكن أعرفه أنه مسؤول في ملحقة إدارية فلا شيئ فيه يوحي بذلك، صاحبته سيجارته لمكتبه، أظهرت تضايقا من ذلك، فكان في غاية اللطف وقام بفتح النافذة !!يقوم بخط الشهادة، استبشرت خيرا واعتقدت أنه لن يبق لي هم سوى في إيجاد وسيلة إنسانية لرحلة العودة !! لكن سرعان ما نسف ذلك بقوله: ''انتظر يجي لي يوقعها ليك، وغالبا لن يأتي إلا بعد ساعة ونصف" أبشروا يا سادة فلقد كان صادق الوعد في هذه، فما أتى إلا بعد ذاك التوقيت، إنه زمن الضبط والانضباط !! وقع ما تراكم في المكتب من وثائق مسرعا، تسلم المواطنون المخلصون شواهد تثبت وفاتهم !! إنه زمن الأحياء الأموات ...
فصول الحكاية لم تنتهي فرحلة العودة لم تتخلف عن موعد بيان الفساد، هرج في المحطة فالفترة مرحلة عطلة، ليكون الأمر كافيا أن يصبح ثمن وسيلة النقل مضاعف... مواطنون يائسون مما هم فيه، لكن كما يقال ''العين بصيرة واليد قصيرة'' حاولت أن أعيد الأمور لأصلها، فبينوا لي أن الأصل هو هذا وغيره بدعة، وقفت متأملا للمشهد الفاسد المفسد الذي يبدو حق وعدل، حينها فقط علمت معنى ''العام زين'' فانخرطت فيما انخرط فيه غيري واستقليت وسيلة بثمن يزيد بكثير عن المعتاد، حرص صاحب الحافلة أن لا يحمل راكبا غير المخصص له في القانون، فالحمد لله أن شيء تم احترامه... لكن كالعادة كل ما يفرح وتبدو علامات الصلاح فيه إلا وسرعان ما يتلاشى في رحلتي ويعود الأمر للبدعة الأصل عندهم !! فهمت فيما بعد أن الحاجز الأمني بتاونات عرف بالجدية والإخلاص في العمل، لكن كما يقال ''اليد الواحدة لا تصفق'' حيث أنه ما لبث أن تجاوزناه إلا وأخذ صاحبنا في إضافة الركاب فأصبحت حافلتنا الجميلة تحمل وزرها ووزر غيرها الذي فاق العشر أشخاص ...
هذه مواقف من رحلتي ولكن ليس كما هو موثق في كتابي: إضاءات وشهادت، بل ظلمات وشهادة وفيات، وليس ملفات من الذاكرة الثقافية، بل مذكرات من الذاكرة البئيسة، وإذا كان أستاذنا محمد عابد الجابري ناقش في كتابه هذا : فوضى الإفتاء واستحالة وقوع الإجماع، فالواقع عندنا أجمع فيه الناس هناك على قبول الفساد طوعا أو كرها ...