من الطبيعي، بعد كل هذه الحرائق التي تندلع هنا وهناك داخل مدن العالم العربي، أن تستنفر مصالح وزارة الداخلية عندنا رجالها تحسبا لإضرام المواطنين النار في أجسادهم للتعبير عن احتجاجهم.
ويبدو أنه بعد انتشار هذا الطقس المجوسي في المغرب، يجب أن تفكر الإدارة العامة للأمن الوطني في تجهيز رجال أمنها بوسائل إطفاء الحريق عوض الهراوات.
ولو أن «الحريك» في المغرب ليس شيئا جديدا، فأول «حراك» في التاريخ هو طارق بن زياد الذي أحرق سفن العودة عند فتحه للأندلس، لكي يمنع رجاله من التولي يوم الزحف على شبه الجزيرة الإيبيرية.
وبعده بقرون، جاء دور أحفاد طارق بن زياد لكي «يحرقوا» مراكب العودة على طريقتهم الخاصة، بحيث أصبح كل من يركب قاربا من قوارب الموت يحرق جواز سفره وأوراق هويته بمجرد ما يلمح أول ضوء على الشواطئ الإسبانية أو الإيطالية. فعملية إحراق وثائق الهوية كانت الطريقة الوحيدة أمام هؤلاء المهاجرين السريين للتخلص من جنسياتهم قبل أن يقبض عليهم حرس الحدود، وبالتالي تجنب إعادتهم إلى بلدانهم الأصلية.
لهذا يمكن أن نقول، بدون فخر، إن «الحريك» ظهر في المغرب قبل أن يظهر في أي مكان آخر. ولو أردنا أن نحصي عدد كل المغاربة الذين احترقوا غرقا وابتلعهم البحر منذ بدء أولى رحلات الموت نحو «الفردوس المفقود»، لهالنا العدد.
وأمام البرلمان ومقرات وزارة الأسرة والصحة ومقر حزب الاستقلال، ظل المعطلون وذوو الاحتياجات الخاصة يشهرون «بيدوزات» البنزين وأعواد الثقاب لسنوات طويلة، ومنهم من نجح في إحراق نفسه قبل أن تخمده خراطيم رجال المطافئ.
ولعل الناس نسوا أن ستة من ضحايا «النجاة»، التي «خرج» فيها عباس الفاسي عندما كان وزيرا للشغل على مستقبل ثلاثين ألف شاب مغربي، انتحروا بعد ما سرق منهم المختبر دماءهم التي أعطوها للتحليل وسرقوا منهم مبالغ ملفات طلب العمل، قبل أن يكتشفوا أن القصة كلها ليست سوى عملية نصب منظمة راحوا ضحيتها، فبلغ منهم اليأس كل مبلغ وانتهوا معلقين بحبل.
هؤلاء الضحايا لا أحد عاد يتذكرهم، مثلما لا أحد عاد يتذكر ضحايا فيضانات الغرب الذين لازالوا يعيشون تحت الخيام، مثلما لا أحد عاد يتذكر ضحايا الفيضانات الأخيرة الذين ماتوا تحت الطين والماء.
مصالح الدولة والحكومة هذه الأيام مجندة جميعها لتجنب إضرام المواطنين النارَ في أجسادهم. لكن العدو الحقيقي للدولة والحكومة ليس هو النار، وإنما الماء تحديدا.
نحن اليوم على مشارف جولة جديدة من التساقطات المطرية المهمة التي قد تؤدي، لا قدر الله، إلى فيضانات في مناطق الشمال والوسط والغرب والجنوب. بالنسبة إلى الفلاحة، فهذه التساقطات تأتي في وقتها المناسب.
لكن المشكلة أن الأمطار عندنا لا تأتي على قدر البنيات التحتية.
فما الذي فعلته السلطات المحلية والمجالس المنتخبة لتجنب وقوع المغرب في الخطأ نفسه الذي ذهبنا ضحيته جميعا قبل شهرين؟ هل وضعوا مخططا للطوارئ يجنب سكان المناطق المعرضة للفيضانات خطر التعرض لنفس المصير الذي عاشوه مؤخرا؟
إن الظروف الاجتماعية والسياسية التي تعرفها بلدان الجوار، لا تسمح اليوم بأن تتعامل السلطات المحلية والمركزية مع مشكل الماء بنفس التعامل المتهاون الذي أبدته خلال الفيضانات الأخيرة.
إنهم يعتقدون مخطئين أن المشاكل ستأتيهم من النار، لكنهم ينسون أن أكبر وأخطر المشاكل هي التي يمكن أن تأتيهم بسبب الماء.
وقد رأينا كيف تسببت الفيضانات الأخيرة في إخراج أحياء بكاملها إلى الاحتجاج في الشوارع أمام وكالات شركة «ليدك»، وكيف قطع المواطنون المتضررون من الفيضانات وتهاون السلطات الطريق السيار وعرقلوا حركة المرور، فانتهوا في سجن عكاشة عوض أن ينتهي فيه المسؤولون عن الكوارث التي أصابتهم.
ولحسن الحظ أن الدولة فهمت، أخيرا، أن هؤلاء الضحايا لم يعرقلوا حركة المرور لأنهم هواة فوضى، ولكنهم فعلوا ذلك لإثارة انتباه المسؤولين إلى مساكنهم التي جرفتها المياه ومحاصيلهم التي ضاعت وأبنائهم الذين تشردوا.
وهاهو القضاء يفهم كم كان مخطئا عندما سجن هؤلاء المواطنين، فيقرر أخيرا إطلاق سراحهم.
لكنه عوض أن يعتقل المسؤولين الحقيقيين عن البناء العشوائي الذين سهلوا بناء هؤلاء المواطنين لمساكنهم خارج القانون بدون قنوات للصرف الصحي أو مجاري المياه، اعتقلوا المقدمين والشيوخ.
وكأن هؤلاء المقدمين والشيوخ كانوا يأخذون الرشاوى لإغماض أعينهم عن البناء العشوائي بمفردهم، ولم يكونوا يحملون نصيبا منها إلى مكتب القياد والباشوات والعمال والولاة.
لكن يبدو أن يد العدالة في المغرب لا تصل إلى الكبار، بل تكتفي بقطف رؤوس الصغار فقط.
كثيرون يعتقدون أن مصدر التوترات الاجتماعية، التي يعرفها العالم بأسره خلال السنوات الأخيرة، سياسي محض، مرتبط بمطالب الشعوب في العيش في واحة الديمقراطية.
الحقيقة أن هناك بلدانا عريقة في الديمقراطية كاليونان، مثلا، التي ولدت الديمقراطية بين أروقة مسارحها، والتي خرج شبابها إلى الشوارع متظاهرا محتجا، ثم مزمجرا ومحطما واجهات البنوك والمحلات التجارية.
إن السبب الرئيسي في كل التغيرات التي يشهدها العالم اليوم هو الماء. فالتقلبات المناخية التي يشهدها العالم تتسبب في كوارث طبيعية تدمر المحاصيل الزراعية. وعندما تتعرض المحاصيل الزراعية للضياع، يظهر مشكل الندرة. وهكذا تظهر المضاربات ويرتفع ثمن المنتجات الزراعية في البورصات العالمية. ومخطئ من يعتقد أن أهم بورصة في العالم هي بورصة «وول ستريت»، بل إن أهم بورصة في العالم هي بورصة القمح في كندا، وهي التي تحدد أسعار البذور وتتحكم في خبز البشرية.
وعندما ترتفع أسعار المواد الزراعية، ترتفع بالتالي تكلفة إنتاج المواد الغذائية، وهكذا ترتفع الأسعار.
وعندما ترتفع الأسعار ترتفع تكلفة المعيشة، وبالتالي يصبح صعبا على المواطنين إكمال الشهر بدون مشاكل. فتبدأ مطالب الطبقة العاملة برفع الرواتب، وينزلون إلى الشوارع وتبدأ الاحتجاجات على غلاء المعيشة، فتتحول الاحتجاجات إلى مطالبة برحيل رئيس الدولة، مثلما حدث في مصر قبل يومين.
لذلك، فالدولة والحكومة مطالبتان اليوم باتخاذ جميع الاحتياطات لاحتواء تداعيات التقلبات المناخية، لأن هذه التقلبات أصبحت سببا رئيسيا في حدوث التقلبات الاجتماعية المؤدية إلى التقلبات السياسية.
عندما نرى كيف أن الدولة والحكومة أقفلتا ملف الفيضانات الأخيرة التي ضربت المغرب دون استخلاص الدروس والعبر التي يجب استخلاصها، نفهم أن جرس الإنذار الذي رن لم يفلح في إيقاظ هؤلاء المسؤولين النائمين في العسل.
فهم ينتظرون أن تغرق المدن من جديد وتنقطع الطرق وتهوي القناطر ويموت المواطنون وتضيع ممتلكاتهم، لكي يظهروا في نشرات الأخبار والبرامج الحوارية لتبرير ما وقع بتفاجئهم بوفرة التساقطات.
عندما تتجرأ لجنة التحكيم، التي اختارتها وزارة «الصناعة والتجارة والتكنولوجيات الحديثة» ووضعت على رأسها بن الشيخ مدير «مكتب التكوين المهني وإنعاش الشغل» الذي يحتج مكونوه أمام مقره منذ شهور، على منح شركة «ليدك» جائزة «جودة الخدمات» قبل أسبوعين في مقر الوزارة بالرباط، مع كل ما اقترفته هذه الشركة من فظائع وكوارث في حق سكان الدار البيضاء الكبرى، نفهم أن الوزير الاتحادي الشامي لديه تعريف خاص لجودة الخدمات.
فهذا الوزير «القافز» ليس هو من ضاعت سيارته أو غرقت سلعته أو انهار بيته بسبب الخدمات الرديئة لهذه الشركة الفرنسية، لذلك فهو يكافئ الخدمات الرديئة لهذه الشركة بجائزة حكومية.
وهذا أكبر دليل على أن المواطن المغربي يوجد في واد بينما بعض وزراء الحكومة يوجدون في واد آخر تماما.
لقد كانت الفيضانات الأخيرة بمثابة جرس الإنذار الذي أثار الانتباه إلى النقط السوداء التي يجب على الدولة والحكومة إصلاحها حتى لا يضطر المواطنون إلى قطع حركة السير مجددا. لكن يبدو أن هذه النقط السوداء لازالت قائمة، فلم نسمع عن برنامج طوارئ معد سلفا استعدادا لاحتمال حدوث فيضانات، ولم نسمع عن تخصيص ميزانيات إضافية لأجهزة الوقاية المدنية، ولم نر برامج للتوعية في وسائل الإعلام العمومية ترشد المواطنين إلى طرق التصرف أثناء حدوث الكوارث الطبيعية.
كل ما شاهدناه هو حملة إشهارية ملونة في الجرائد والمجلات والإذاعات الخاصة قامت بها شركة «ليدك» وخصصت لها ميزانيات ضخمة لإغلاق أفواه كل الصحافيين وتكميم أفواههم عن انتقادها وفضح طرقها الإجرامية التي ستؤدي، في حالة استمرارها، إلى حدوث ما لا تحمد عقباه. آنذاك سيكون هؤلاء الصحافيون شركاء في الإثم والعدوان بصمتهم وتواطئهم وخيانتهم للأمانة الموضوعة على عاتقهم.
أما مجلس المدينة، فعوض أن يخصص سيارات لرجال الوقاية المدنية وسيارات الإسعاف، فإنه يخصص سيارات لأعضائه وأفراد عائلاتهم. وقد بلغت صفقة كراء 232 سيارة ميزانية قدرها مليار و200 مليون سنتيم. والكارثة أن المجلس لم يستفد سوى من 160 سيارة، أما البقية فلا زالت في حوزة الشركة رغم أن المجلس يؤدي ثمن كرائها من جيوب المواطنين دون استعمالها.
ووحده جودار، النائب الخامس أو السادس أو السابع للعمدة، يمتلك أربع سيارات، سيارة له وسيارة للمدام وسيارتان لابنتيه.
«تبارك الله على بنعلي ديالنا وصافي».