محمد السوسي
احتفل المسلمون منذ أيام بذكرى مولد الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم وفي مولده عليه السلام يستحضر المسلمون هذا الإنسان الرسول وما كان له من فضل على الإنسانية كلها، وعلى الأمة الإسلامية بصفة خاصة، وفي كل شهر ربيع النبوي الذي تحل فيه الذكرى يعود بعض الناس إلى جدال فصل فيه الناس منذ سبعمائة سنة عندما تم تخصيص هذه الذكرى بما يليق بها من تعظيم الرسول والحديث عن سيرته وأخلاقه، وما حمله إلى الناس من بشارة وخير وبركة في معاشهم ومعادهم.
لقد أخذ كل واحد من الناس ومن المنتسبين للعلم وغيرهم موقفا من هذه الذكرى وكلها محبذة ومستحسنة، وما خرج عن إجماع الأمة في هذا الأمر إلا أقل القليل، وعللوا ذلك بأن إحياء الذكرى عبادة وهي لم يشرعها صاحب الذكرى أو بما يصاحب الذكرى من بعض الممارسات في سائر الأيام وأحرى في الذكرى، ولم يفت هؤلاء المتحفظين لهذه الأسباب أن يباركوا الذكرى إذا كانت خالية من تلك الممارسات وفي مقدمة هؤلاء العلماء الشيخ ابن تيمية رحمه الله.
ولكن بعض الناس يأبون إلا أن يتخذوا من تلك الممارسات التي لا تخلو منها الحياة الإنسانية، والتي لا يمكن اللجوء إلى التبديع والتحريم لهذا السبب، وإنما المناسب والمطلوب هو العمل وبذل الجهد لتطهير الممارسة وإحياء الذكرى من تلك الممارسات وهذا هو الرهان الذي يجب العمل لربحه وأما الأصول الشرعية أو التأصيل لإحياء الذكرى فهو موجود في أماكنه في كتب الفقهاء والعلماء وكتاب السيرة التي ألفت منذ قرون بعد إحداث إحياء الذكرى ولا تزال تتكرر في كل ذكرى.
*********
آية جامعة
(يأيها النبي إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا وبشر المؤمنين بأن لهم من الله فضلا كبيرا ولا تطع الكافرين والمنافقين ودع اذاهم وتوكل على الله وكفى بالله وكيلا). (سورة الأحزاب الآية: 45-48)
لو شاء الإنسان أن يصور تصويرا دقيقا ويحدد معالم الدعوة المحمدية ورسالته النبي الأكرم إلى الإنسانية. لكانت هذه الآية وهذه التوجيهات والأوامر والنواهي الواردة فيها للنبي عليه السلام كافية وهادية للإنسان في هذا الأمر الذي يرومه.
الفطرة
إن الإنسان بقطرته مجبول على الإيمان، وإذا لم يجد من يوجهه إلى الإيمان السليم والصحيح الذي يتجاوب مع هذه الفطرة الحق، التي فطر الله الناس عليها، فإن الأهواء ستتقاذفه ذات اليمين وذات الشمال، والأهواء بطبيعتها إذا انساق إليها الإنسان واتبعها تتجه به إلى الهلاك المحقق، والى التخبط والشرك بالله واتخاذ آلهة ما انزل الله بها من سلطان ولذلك يقول القرءان الكريم «ومن يشرك بالله فكأنما خر من السماء فتخطفه الطير أو تهوى به في مكان سحيق».
فالرسالة التي جاء بها محمد صلى الله عليه وسلم هي الرسالة التي جاء بها الأنبياء والرسل من قبل :«قل ما كنت بدعا من الرسل» (شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه».
الميثاق
هذه رسالة الإسلام إلى الإنسانية كلها منذ ميثاق الذر الذي أخذ الله فيه العهد على الإنسانية وهي لا تزال في الأصلاب (وإذا اخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذرياتهم وأشهدهم على أنفسهم الست بربكم؟ قالوا بلى) لذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إنه لو بعث موسى ما وسعه إلا أن ينبغي أو كما قال لأنه ما كان لموسى ولا لغيره من الأنبياء والرسل عليهم السلام أن يخرجوا عن فطرة التوحيد وفطرة الإسلام فإبراهيم هو الذي سمى الجميع بالمسلمين. «ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين» وبهذه الصفة وهذه الحقيقة الدينية التي ينطق بها الواقع وسجلها التاريخ واعترف بها الباحثون المنصفون والتزم به من سبقت له الهداية، وكان من المسلمين المؤمنين، كان الإسلام الدين الحق الذي لا يقبل غيره.
وحدة الأذى
ولم يكن الرسول عليهم السلام على سنة هؤلاء الأنبياء والرسل في تبليغ الدعوة والرسالة فقط ، ولكنه كان كذلك فيما لقيه من قومه من أذى، وما أصابه من عنت وما تعرض له المؤمنون به، والمستجيبون لدعوته من كيد وعذاب واهانة ولكنهم ما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا، فكانت رعاية الله لهم في كل لحظة وحين تقيهم وتحميهم وتصونهم مما يرومه أعداؤهم، فكانت الرعاية الربانية لهم رعاية لهذه الرسالة، ورعاية لدعوة الله إلى البشرية لتأخذ طريقها إلى دنيا الناس، والى أفئدتهم لتنقذهم من وهدة الشرك، ومن الضلال ومن الجور والطغيان، هذه الحقيقة هي التي كانت سر دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم في غزوة بدر «اللهم ان تهلك هذه الطائفة فلن تعبد»، فلم يكن قصد الرسول إلا أن استمرار السير في الطريق الذي قطعته الدعوة بعد كل ما تعرض له من الأذى والظلم هو وصحابته وآل بيته في مكة وما تبعهم من ذلك إلى المدينة قد لا يتحمل الانتكاسة في هذه المعركة القائمة وكذلك كان، فقد انتصر الرسول وانتصرت الدعوة في هذه المعركة القاسية والتي كانت معركة فاصلة بين الحق والباطل، بين الإيمان والشرك والصدق والكذب والنفاق.
الإعراض عن الجاهلين
إن الآية التي افتتحنا بها هذه الخواطر تتضمن الدعوة إلى النبي الأكرم فأوضحت في نفس الوقت لماذا هو مكلف بالرسالة ليبلغها إلى الناس كافة، والمفسرون يرون أن هذه الآية تنطوي على مجامع الرسالة المحمدية وقد ذكرت هنا أوصاف دون غيرها لهذا السبب وإلا فإن أوصاف رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تعد ولا تحصى ويجملها قوله تعالى (وانك لعلى خلق عظيم). وإلا فهو رحمة للعالمين، وهو بالمؤمنين رءوف رحيم وهو ليس فضا ولا غليظ القلب، ولا مجافيا، ولكنه يأخذ بمجامع الأخلاق الفاضلة والعالية آخذا بالعفو وآمرا بالعرف ومعرضا عن رعونة أخلاق الجاهلية كما قال القرءان (خذ العفو وأمر بالعرف واعرض عن الجاهلين). لقد كانت أخلاقه متسعة لكل المحامد والفضائل ولذلك ليس هناك مبالغة حينما قيل (كان خلقه القرءان). وكفى بالقمة في المعالي والسمو الخلقي أن يكون هذا النبي الأمي في هذا المستوى العظيم من سمو الأخلاق ومكارمها.
قوم البغضاء
وإذا كان الأمر كذلك وهو كذلك بالفعل فاني لأولئك الذين في قلوبهم مرض سواء في عصر الجاهلية الخُلُقية الأولى، أو في عصر الجاهلية الخُلُقية المعاصرة، أن ينالوا من هذا الرسول الكريم، لقد كان هذا الرسول الأمي ولا يزال منارا هاديا وشمسا ساطعة تذيب بأشعتها النورانية كل الأباطيل والأضاليل التي يروج لها ويدعيها من في قلوبهم حقد وزيغ، وفي نفوسهم من الإحن والبغضاء كما أخبر الله به في محكم كتابه: "قد بدت البغضاء من أفواههم، وما تخفي صدورهم اكبر" (آل عمران أية 118).
وسنحاول في هذه العجالة أن ندخل بشيء من التفصيل في هذه الأوصاف الخمسة التي نضمتها هذه الآية وقد جاءت الآية في سياق آية أخرى هي قوله تعالى: «هو الذي يصلي عليكم وملائكته، ليخرجكم من الظلمات إلى النور وكان بالمؤمنين رحيما تحيتهم يوم يلقونه سلام وأعد لهم أجرا كريما» (سورة الأحزاب الآية 43-44). فقد أخبرت الآية أن الرسول عليه السلام يعتبر:
1 – شاهدا، على الإنسانية كلها، انها وصلتها الدعوة وتعرفت على الرسالة وصاحب الرسالة وان الناس لا ينفعهم بعد الآن النكران أو التملص فهذا الرسول النبي الأمي شاهد عليهم وهو الشاهد الصادق الأمين.
وشاهد كذلك على الوضع الذي وجد عليه الإنسانية في تلك المرحلة من مراحل التاريخ الإنساني.
الأمة العادلة
انه شاهد على التحريف الذي اعترى الرسالات السابقة بما اقترفه الأحبار والرهبان من التلاعب بالنصوص والتعديلات التي ألحقوها بتلك النصوص هذا التحريف الذي أيدته الحفريات الحديثة وأثبته كذلك أسلوب النقد الحديث الذي تعرضت له هذه النصوص من خلال علم تاريخ مقارنة الأديان، وعلم اللغة الحديث والأساليب اللغوية الجديدة التي أخضعت النصوص لمعايير لغوية دقيقة لسانية، ولذلك فهذا الرسول النبي الخاتم أكد لهؤلاء الأقوام أنهم يحرفون الكلم عن مواضعه، ويدخلون في الدين ما ليس فيه، والرسول هو شاهد كذلك على أمته، وهو أمر كان الرسول صلى الله عليه وسلم يستعظمه عندما كان يتلو قوله تعالى: «فكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاء شَهِيدًا» (سورة النساء الآية:41).
فكيف إذ اجتنا بكل امة شهيدا وحينا بك على هؤلاء شهيدا وقد كانت الأمة الإسلامية الأمة الوسط لكونها عادلة في أحكامها وفي شريعتها «وكذلك جعلناكم امة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا». (سورة البقرة)
فهذا الوصف الذي يبوئ الرسول عليه السلام مكانة لم يبوأها نبي ولا رسول من قبل، كان من الضروري أن يتلوها وصف آخر. من شأنه أن ينقل الأمر إلى موقع جديد، فالناس الذين تنالهم هذه الشهادة من الرسول عليه السلام وهي شهادة ليست في صالحهم دائما نظرا للانحرافات التي تعتري الناس أفرادا وجماعات، وهي التي تكلم عنها القرءان الكريم حيث قص علينا في هذا المجال أحسن القصص وما كان من أقوام الأنبياء والرسل تجاه هؤلاء الأنبياء والرسل فقد كذبت أقوام وصد آخرون عن سبيل الله، وسخروا بالأنبياء والرسل ونالوا منهم ومن دعواتهم إلى الإيمان والتوحيد، ولابد من فتح أبواب الأمل أمام الأمة الإسلامية أمة محمد فكان الوصف الثاني:
مبشرا:
البشارة من الأمور التي وردت في وصف الرسول ودعوته، ولقد كان عليه السلام حقا مبشرا ليس لأمته فقط ولكن للإنسانية كلها، وجعل من أسس الدعوة الإسلامية التبشير بالإيمان وبما يناله الإنسان من خير من هذا الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله في دنياه وآخراه.
لقد استعمل بعض الناس اليوم كلمة التبشير في غير محلها، وأصبحت هذه الكلمة أمام ما تقوم به بعض الهيآت التبشيرية أو التنصيرية في العالم تشويها لحقيقة التبشير وأهدافه ومراميه. وهو أمر سجله كثير من المراقبين والباحثين حيث تتهافت هذه الإرساليات على استغلال حاجات الناس وحاجياتهم للتلويح لهم برمز الديانة التي يدعون إليها، مدعين ان ما يقدم من غوث وإعانة إنما جاء بفضل ذلك الرمز، ومن تم فإن نجاتهم وإنقاذهم وخلاصهم سيتم بالإيمان والالتزام بما يرونه دينا أو إيمانا. مع أن الدين الحق الذي يزعمون الانتساب إليه ليس بدعا من رسالات الأنبياء والرسل التي اخبرنا القرآن بها وبتفاصيلها انه استعمال يضر بفكرة البشارة أكثر مما ينفعها ومن طبيعة الحال ان البشارة التي جاء بها الرسول محمد عليه السلام وأمره القرآن بها كما سنتكلم عليها بعد مغايرة تماما لهذه البشارة التي يدعون أو يزعمون.
أهداف البشارة
لقد كان من قواعد دعوة الرسول عليه السلام ووصيته لأصحابه البشارة بالإيمان والفضل والأخلاق الحميدة فقال لأصحابه (بشروا ولا تنفروا يسروا ولا تعسروا)، فكان بناء على ذلك اليسر وفتح أبواب الأمل والرجاء أمام الناس من قواعد التشريع الإسلامي. كما جاء في القرآن الكريم "يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر" واليسر من طبيعته أنه مقترن بالبشارة ورفع الحرج".
رفع الحرج
فكان من القواعد الأساسية للتشريع في الإسلام اليسر ورفع الحرج قال تعالى: «يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر». كما قال: «وما جعل عليكم في الدين من حرج». وأين هذا مما امتلأت به الديانات الأخرى سواء الوضعية أو السماوية من الأسرار والإصر والقيود والأغلال هذه القيود والأغلال التي كسرها الإسلام وكان من صفات الرسول عليه السلام كما جاء في القرءان الكريم: «الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم أصرهم والأغلال التي كانت عليهم، فالذين آمنوا به وعززوه ونصروه واتبعوا النور الذي انزل معه أولئك هم المفلحون» (الأعراف الآية 157).
وقد أورد الفخر الرازي عند تفسير هذه الآية تحليلا لصفات الرسول الواردة في هذه الآية مع تقرير معنى كونه أميا ولاشك أن هذه الصفات هي زائدة على الصفات التي جاءت في الآية التي افتتحنا بها هذه الخواطر ومهما حاول الإنسان تعداد محاسنه وصفاته التي اصطفاه الله بها فلن يستطيع وكيف وهو كما قال تعالى: (لعلى خلق عظيم). يقول الفخر:
"انه تعالى وصف محمدا صلى الله عليه وسلم في هذه الآية بصفات تسع.
الصفة الأولى: كونه صلى الله عليه وسلم رسولا وقد اختص هذا اللفظ بحسب العرف بمن أرسله الله إلى الخلق لتبليغ التكاليف.
الصفة الثانية: كونه صلى الله عليه وسلم نبيا وهو يدل على كونه رفيع القدر عند الله تعالى.
الصفة الثالثة: كونه صلى الله عليه سلم أميا قال الزجاج معنى الأمي الذي هو على صفة امة العرب قال عليه الصلاة والسلام انا امة أمية لا نكتب ولا نحسب فالعرب أكثرهم ما كانوا يكتبون ولا يقرؤون والنبي عليه الصلاة والسلام كان كذلك فلهذا السبب وصفه تعالى بكونه أميا قال أهل التحقيق وكونه أميا بهذا التفسير كان من جملة معجزاته صلى الله عليه وسلم وبيانه من وجوه:
الأول: انه عليه الصلاة والسلام كان يقرا عليهم كتاب الله تعالى مرة بعد أخرى من غير تبديل ألفاظه ولا تغيير كلماته والخطيب من العرب إذا ارتجل خطبة ثم أعادها فإنه لا بدان يزيد فيها وان ينقص عنها بالقليل والكثير ثم انه عليه الصلاة والسلام مع أنه ما كان يكتب وما كان يقرأ يتلو كتاب الله من غير زيادة ولا نقصان ولا تغيير فكان ذلك من المعجزات وإليه الإشارة بقوله تعالى سنقرئك فلا تنسى.
الثاني: انه صلى الله عليه وسلم لو كان يحسن الخط والقراءة لصار متهما في أنه ربما طالع كتب الأولين فحصل هذه العلوم من تلك المطالعة فلما آتى بهذا القرآن العظيم المشتمل على العلوم الكثيرة من غير تعلم ولا مطالعة كان ذلك من المعجزات وهذا هو المراد من قوله تعالى وما كنت (تثلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك إذا لا رتاب المبطلون).
الثالث: ان تعلم الخط شيء سهل فان اقل الناس ذكاء وفطنة يتعلمون الخط بأدنى سعي فعدم تعلمه يدل على نقصان عظيم في الفهم ثم انه تعالى آتاه صلى الله عليه وسلم علوم الأولين والآخرين وأعطاه من العلوم والحقائق ما لم يصل إليه احد من البشر ومع تلك القوة العظيمة في العقل والفهم جعله بحيث لم يتعلم الخط الذي يسهل تعلمه على اقل الخلق عقلا وفهما فكان الجمع بين هاتين الحالتين المتضادتين جاريا مجرى الجمع بين الضدين وذلك من الأمور الخارقة للعادة وجار مجرى المعجزات.
هذا ما كتبه وحلل به الفخر الرازي معنى النبي السامي، ولاشك أن من الأمور التي أثيرت كثيرة في الوقت الحاضر وقبله مسألة الأمي وما يدل عليه في القرآن الكريم وكل ما ورد من أوجه الأمية لدى الباحثين سواء من ذوي النوايا الحسنة أو من المعرضين لا تخرج عن عما ... حوله الأولون.
الصفة الرابعة: أي من صفاته صلى الله عليه وسلم التسع المذكورة قوله تعالى الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل وهذا يدل على أن نعته عليه الصلاة والسلام وصحة نبوته مكتوب في التوراة والإنجيل لأن ذلك لو لم يكن مكتوبا لكان ذكر هذا الكلام من أعظم المنفرات لليهود والنصارى عن قبول قوله صلى الله عليه وسلم لان الإصرار على الكذب والبهتان من أعظم المنفرات والعاقل لا يسعى فيما يوجب نقصان حاله وينفر الناس عن قبول قوله فلما قال ذلك دل هذا على أن ذلك النعت كان مذكورا في التوراة والإنجيل وذلك من أعظم الدلائل على صحة نبوته صلى الله عليه وسلم.
وإذا كان الفخر الرازي كتب ما كتب قبل أن تكشف حقائق كثيرة في هذا الموضوع فإن ما يكتبه الباحثون من اليهود والنصارى وغيرهم من المختصين يؤكد وجود هذه البشارات ووجود ذكر اسم محمد عليه السلام تصريحا أو تلميحا.
الصفة الخامسة: قوله تعالى يأمرهم بالمعروف قال الزجاج يجوز أن يكون قوله يأمرهم بالمعروف استئنافا ويجوز أن يكون المعنى يجدونه مكتوبا عندهم أنه يأمرهم بالمعروف.
الصفة السادسة: قوله تعالى وينهاهم عن المنكر والمراد منه أضداد الأمور المذكور وهي عبادة الأوثان والقول في صفات الله تعالى بغير علم والكفر بما أنزل الله على النبيين وقطع الرحم وعقوق الوالدين.
الصفة السابعة: قوله تعالى ويحل لهم الطيبات من الناس من قال المراد بالطيبات الأشياء التي حكم الله بحلها وهذا بعيد بل الواجب أن يكون المراد من الطيبات الأشياء المستطابة بحسب الطبع وذلك لأن تناولها يفيد اللذة والأصل في المنافع الحل فكانت هذه الآية دالة على أن الأصل في كل ما تستطيبه النفس ويستلذه الطبع الحل إلا لدليل منفصل.
الصفة الثامنة: قوله تعالى ويحرم عليهم الخبائث قال عطاء عن ابن عباس يريد الميتة والدم وما ذكر في سورة المائدة إلى قوله تعالى ذالكم فسق وأقول كل ما يستخبثه الطبع وتستقذره النفس وكان تناوله سببا للألم والأصل في المضار الحرمة فكان مقتضاه ان كل ما يستخبثه الطبع فالأصل فيه الحرمة إلا لدليل منفصل.
الصفة التاسعة: قوله تعالى ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم الاصر الثقل الذي يأصر صاحبه أي يحبسه من الحراك لثقله والمراد منه ان شريعة موسى عليه السلام كانت شديدة وقوله تعالى والأغلال التي كانت عليهم المراد منه الشدائد التي كانت في عباداتهم ... وجعلها الله أغلالا لأن التحريم يمنع من الفعل كما أن الغل يمنع عن الفعل هذه الآية تدل على أن الأصل في المضار أن لا تكون مشروعة لأن كل ما كان ضررا كان إصرا وغلا وظاهر هذا النص يقتضي عدم المشروعية وهذا نظير لقوله عليه الصلاة والسلام لا ضرر ولا ضرار في الإسلام ولقوله عليه الصلاة والسلام بعثت بالحنيفية السهلة السمحة وهو أصل كبير في الشريعة. اهـ
الغلو مرفوض
هذه الصفات التي جاءت في هذه الآية الكريمة تدل كلها على ما في رسالة محمد صلى الله عليه وسلم من سهولة ويسر، وما تحمله من بشارة للمؤمنين والعاملين سواء في هذه الدنيا أو في الآخرة. ولذلك نجد الرازي يختم كلامه بقوله الآنف الذكر أنه عليه السلام بعث بالحنيفية السمحة.
ومن هنا ندرك أن التشدد والغلو ليسا من الإسلام في شيء، وان الذين يثقلون كاهل الأمة بالطقوس وبدعم ما أنزل الله بها من سلطان إنما يتحركون خارج أصول الشرع لأن ذلك مجانب للفطرة والدين القيم هو الدين المنسجم مع الفطرة الإنسانية، ومن هنا كان الرسول عليهم نذيرا لمثل هؤلاء الناي وهي الصفة الثالثة من آيات الافتتاح .
ونذيرا:
كان الرسول عليه السلام يحمل البشارة كما سبقت الإشارة ولكنه في نفس الوقت كان نذيرا لهؤلاء الناس الذين يلعب بهم الشيطان وسطر على أفئدتهم ويوجه سلوكاتهم وقد ورد في القرآن آيات كثيرة تؤكد في ضرورة إنذار الناس وكان من أول ما نزل بل ان القرءان انما كان ميسرا على لسان الرسول لهذه المهمة العظيمة مهمة التبشير وإنذار الذين يزيغون عن الطريق بالمصير الذي ينتظرهم فقال سبحانه في أية أخرى: « فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا» (سورة مريم الآية:97).
وداعيا:
إلى الله بإذن منه سبحانه فالرسول لم يختلق الدعوة ولم يأت بها من تلقاء نفسه وإنما كان رسول يبلغ ما أمر بتبليغه من الله سبحانه بصدق وأمانة، وذلك في إطار من الحكمة والموعظة الحسنة التي تزاوج بين البشارة والإنذار والترهيب والترغيب وما كانت هذه الدعوة المبنية على اللطف وليس الجانب ومخاطبة الناس بقدر ما يفهمون وباللسان الذي يدركون ما كانت هذه الدعوة لتكون ...
نور لا ظلامية
سراجا منيرا:
فالرسول عليه السلام جاء يحمل إلى الناس الهداية ويفتح أمامهم آفاق الخير فهو الرائد الذي لا يكذب وهو النور الذي جاء يحمل النور ليخرج الناس ما هم فيه من الظلمات كما جاء في آية أخرى (قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين) فهذا النور الذي هو السراج الذي يهتدي به الناس في كل ما يعن لهم في حياتهم فهو الهداية وهو الصراط المستقيم وهو الفلاح الذي يعد به الإنسان إذا اهتدى به وهو في حالة الخروج عنه يسبب لنفسه الهلاك دنيا وآخرة.
وان الإنسان ليعجب من بعض الذين تختلط عليهم الإفهام فإذا بهم ينزلقون ليصفوا بعض التعاليم التي جاء بها هذا النور بنعوت الظلامية وغيرها من نعوت لا يمكن أن تستقيم مع ما يحمله هذا النور إلى الناس، نعم قد يكون بعض الناس استعملوا التعاليم لغير ما جاءت له وقد ينحرفون ولكن ليست الدعوة إلى هذا النور ظلامية ولا يمكن أن تكون وحبذا لو أن بعض الناس يتحرزون في استعمال هذه الكلمة حتى لا يقعوا في محظور ليس مع الناس فالخلافات بين الناس أمر جبلي وفطري ولكن مع من يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور وقد أورد الفخر الرازي كلاما جيدا في تفسير هذه الآيات ولعل أن يكون من المفيد إثبات بعض ذلك فيما يلي:
(اللطيفة الثانية) قال في حق النبي عليه السلام سراجا ولم يقل إنه شمس مع أنه أشد إضاءة من السراج لفوائد منها، أن الشمس نورها لا يؤخذ منه شيء والسراج يؤخذ منه أنوار كثيرة فإذا انطفأ الأول يبقى الذي أخذ منه، وكذلك إن غاب والنبي عليه السلام كان كذلك إذ كل صحابي أخذ منه نور الهداية كما قال عليه السلام "أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم" وفي الخبر لطيفة وإن كانت ليست من التفسير ولكن الكلام يجر الكلام وهي أن النبي عليه السلام لم يجعل أصحابه كالسرج وجعلهم كالنجوم لأن النجم لا يؤخذ منه نور بل له في نفسه نور إذا غرب هو لا يبقى نور مستفاد منه، وكذلك الصحابى إذا مات فالتابعي يستنير بنور النبي عليه السلام ولا يأخذ منه إلا قول النبي عليه السلام وفعله، فأنوار المجتهدين كلهم من النبي عليه السلام ولو جعلهم كالسرج والنبي عليه السلام أيضا سراج كان للمجتهد ان يستنير بمن أراد منهم ويأخذ النور ممن اختار.
قول الصحابي
وليس كذلك فإن مع نص النبي عليه السلام لا يعمل بقول الصحابي فيؤخذ من النبي النور ولا يؤخذ من الصحابى فلم يجعله سراجا وهذا يوجب ضعفا في حديث سراج الأمة والمحدثون ذكروه وفي تفسير السراج وجه آخر وهو أن المراد منه القرآن وتقديره إنا أرسلناك، وسراجا منيرا عطفا على محل الكاف أي وأرسلنا سراجا منيرا وعلى قولنا إنه عطف على مبشرا ونذيرا يكون معناه وذا سراج لأن الحال لا يكون إلا وصفا للفاعل أو المفعول، والسراج ليس وصفا لأن النبي عليه السلام ولم يكن سراجا حقيقة أو يكون كقول القائل رأيته أسدا أي شجاعا فقوله سراجا أي هاديا مبينا كالسراج يرى الطريق ويبين الأمر.
لمن الفضل؟
ونختم هذه الأوصاف العظيمة للرسول عليه السلام بأمر هو تأكيد للصفة المتقدمة وهي البشارة فقال وبشر المومنين بما هو معد لهم من الفضل الكبير عند الله تعالى وخالف أهل الكفر والزيغ والضلال وذكر القرءان فئتي من الناس الكافرين والمنافقين فقال ولا تطع الكافرين والمنافقين.. رغم إذا يتهم لك ان الله سبحانه كفيل بمجازاتهم وليست الاذاية في الواقع مقتصرة على المعاناة التي عاناها عليه السلام هو وصحابته ومن آمن به، ولكن هذه الاذاية لا تزال مستمرة من لدن أناس وظنوا أنفسهم على الشر والإساءة لذوي الفضل والكرامة والمروءة من الناس ولكن هؤلاء الناس الذين من طبعهم الشر والإساءة لم يكونوا لينالوا من هذا الرسول الإنسان الذي أنقذ البشرية وفتح أمامه أبواب الخير العام والذي جاء رحمة مهداة إلى الناس كافة فهو الرحمة التي جاءت من عند الله وستبقى ما بقي الدهر وما بقي في الناس فئة مومنة خيرة فاضلة.