محمد المودني
إن الخوف المكبوت في صدر أي إنسان الناجم عن ظلم وحيف وضغط حاكمه المتسلط على كل أوجه حياته بالباطل من المؤكد أن يتحول إلى غضب شديد وهيجان عقلي وعصبي تنفجر معه قوته الباطنية المخزنة خلف ذلك الخوف انفجارا قويا في أية لحظة يكون مدمرا يحدث زلزالا عنيفا في محيطه وقد يتعداه جغرافيا إلى أبعد نقطة أرضية وإلى أعتد كتلة بشرية ، وليست هذه الوصفة مقتصرة على الإنسان فقط بل تنطبق على كل المكونات الكونية .
فالطبيعة بكل تفاصيلها لا يختلف غضبها عن غضب الإنسان إلا بقوة أعنف على من اعتدى عليها وأخافها وأرهبها وظلمها من بني البشر مهما استقوى وتجبر ، وخير دليل على ذلك هو التحول السريع الذي طرأ على غضبها ( بالهزات الأرضية والزلازل والأعاصير والفيضانات والجفاف والحرائق .. ) من حيث تكراره وتسارعه الغير المألوف وتعاظم قوته المدمرة وتضخم الخسائر التي بات يلحقها بالحياة البشرية منذ ما يزيد عن ثلاثة عقود ردا على الاعتداءات والظلم الذي بات يمارسه عليها الإنسان بلا رحمة وبوحشية في كل الحياة البيئية وبكل أدواته التدميرية . حتى الحيوان يكون غضبه ورد فعله عنيفا على كل من ظلمه وأقسى عليه من الإنسان ويكون انتقامه منه فتاكا وقاتلا .
إذا فالاعتداء بكل أشكاله والتسلط بالباطل ، والظلم بكل جزئياته والتخويف والترهيب بالتعذيب العضوي والنفسي ينتج عنه الموت المفاجئ لذلك الخوف الرهيب ويتحول الضعف والرعب في لحظات وجيزة غير متوقعة إلى قوة خارقة وحارقة وشجاعة لا حدود لها تنهار أمامها قوة الظالم انهيارا مذلا ينزله إلى حضيض التاريخ ويرمي به إلى خارج الجغرافية ، فيتقوى الضعيف المظلوم ويصعد باستحقاق إلى قمة هذا التاريخ وهته الجغرافية .
إنها معادلة طبيعية عادلة بإبداع رباني جعل فيها الله عز وجل نهاية الظلام بهجوم النور وانهيار واندحار الظالم بطغيانه أمام زحف غضب وثورة المظلوم الضعيف بخوفه الوضعي ومسالمته في الحياة .
على هدي هذه المعادلة الإلهية الخلاقة هبت ثورة الشعب التونسي الضعيف بحبه للحياة ولوطنه ولدينه ، وبخوفه المتراكم في صدره مع تراكم ظلم وبطش حكامه المتسلطين بالباطل على رقابه في عهدين مظلمين روحيا وإنسانيا وقانونيا واجتماعيا واقتصاديا وسياسيا ، عهدين بنظامين لا يختلفان إلا بالاسمين ليست لي شهية ذكرهما لأن كلمة “زين” نحبها نحن المغاربة بل نبجلها ، فهي في لهجتنا تتجاوز في معناها كلمة “حلو أو حلوة” في لهجة أشقائنا الشرقيين وكلمة “باهي أو باهيه” في لهجة أبطال العرب الأشقاء التونسيين فهي بالنسبة لنا الوصف الدقيق والصادق للوسامة والجمال .. طبعا جمال الروح والعقل قبل جمال الجسد ولا نقولها إلا لمن تنطبق عليه روحيا وفكريا وعضويا ، وأنا لا أرى أية نقطة التقاء بين هذا الوصف ( الزين ) وبين ديكتاتور تاريخ تونس بل هو على العكس من ذلك بمائة وثمانين درجة ، بمعنى حسب لهجتنا ولغة الضاد فهو ” قبيح ” وقبيح جدا، وحاشى لله أن يكون هذا الطاغية زينا أو ( زوين ) .
لذا فغضب التونسيين هو سلوك طبيعي قبل أن يكون سلوكا إنسانيا حضاريا مفاجأته في مسبباته ووسيلته وسرعة إنجازه ، إنها ثورة الشعب المغلوب بإقصائه من حياته بالحديد والنار وليست ثورة الضباط الأحرار والجنرالات أو ثورة المتحزبين والنقابيين والنخب الخانعين الساجدين والهاربين :
ثورة شعبية اجتماعية عملاقة ونظيفة بأسبابها وغاياتها رغم صغر كتلتها الجغرافية والبشرية وتواضع إمكانياتها أطاحت بأقوى طاغية رغم عجرفته ووحشيته .
ثورة الخوف والغضب في تونس هلت بعدما فقد الشعب العربي الأمل في قيام أية ثورة شعبية عربية ، ويئس من تاريخه وهويته في وقت تقوت فيه شوكة الطغاة الظالمين من حكامه وساسته ونخبه الانتهازيين برعاية حماتهم من الامبرياليين ، فأسقطت بسرعتها وعظيم إنجازها نظريتهم الشريرة في الحكم التي تعتمد على سياسة التخويف والترهيب والتجويع – وفي أحسن الأحوال – على الكذب والتحايل والتسويف والنفاق والهروب إلى الأمام أو التراجع إلى الوراء . ثورة الشعب التونسي الصغير بحجمه الكبير بفكره أعادت للإنسان العربي توازنه واعتباره وكرامته وقتلت – وإلى الأبد بعون الله – الخوف الساكن في أعماقه منذ زمن ليس بالقصير ، والأكيد أنها أدخلت الرعب لنفوس حكامه الممارسين والوساوس لعقول أعدائه من الصهاينة والصليبيين .
النظامين التونسيين البائدين ، الأول بعد الاستقلال الشكلي والثاني وارثه الغير الشرعي ، قاما على شعارين مزيفين لا يختلفان في إيهام شعبهما “ببطولات” الأول وتاريخه “المجيد” ، و”شجاعة وإقدام” الثاني وفلسفة “معجزته” وكلاهما عظمت خيانتهما لدينهما ولقوميتهما ولشعبهما ولوطنهما بكل ثوابته :
فالأول الذي ورثته فرنسا في حكم تونس ( كما فعلت في كل مستعمراتها ) كان يرى في نفسه فرعون زمانه يستحق الخلود والتسبيح باسمه ، والأكيد أن التونسيين ومعهم كل الشعوب الإسلامية لم ولن ينسوا تباهيه على شاشة التلفزيون الفرنسي بشربه للنبيذ وسط الفرنسيين في يوم الصيام أوائل ثمانينيات القرن العشرين ، وكيف تناسى أصله وتربته حينما تعملق على شعبه بقوله أنه أعظم من تونس ويستحق شعبا أعظم من شعبها ( حسب شهادة وزيره الأول محمد المزالي ) .. هذا فظلا عن الهرم الذي بناه لنفسه وإهماله لشعبه وتركه فريسة للانتهازيين واللصوص المحيطين ببرجه .
أما النظام الثاني المنهار يوم العيد الإسلامي الأسبوعي فجاء بطاغية أكبر على صهوة فيل من دخان باسم حب وخدمة الشعب مغلفا وجهه القبيح بشعارات منتفخة وخيالية سرعان ما انكشف زيفها ونفاقه بعد أقل من ثلاث سنوات من اغتصابه للسلطة ومجروراتها ، وكانت أبرز صور بداية ظهور فساده المعلن مطلع تسعينيات القرن الماضي عندما ارتمى في حضن الشيطان بوجه ليلى وحمولاتها .
بهذا تكون تونس ، عاصمة الفتح الإسلامي على جناحه الغربي ، قد دخلت حقبة أحلك وأفضع من سابقتها .. حقبة الفساد المطلق : فساد ديني ، وفساد سياسي ، وفساد أمني ، وفساد اقتصادي ، وفساد اجتماعي .. فكان بذلك نظاما مافيوزيا بكل المقاييس كما هو واقع كل الأنظمة العربية ..
فعلى الصعيد السياسي أحاط هذا القبيح ( ديكتاتور تاريخ تونس ) عرشه ونظامه بمافيا أسرية أولا وأمنية ثانيا وحزبية ونقابية وإعلامية ثالثا ، تعتمد في ركائزها على مجموعة من المنافقين والمنتفعين والانتهازيين ممن لا قلوب ولا ضمير لهم ، لتثبيت وتقوية وشرعنة نظامه وجعل من حزبه دولته باسم تونس وكل التونسيين يسبحون باسمه ، ثم أعلن حربا استئصاليه لا هوادة فيها على كل من خالفه القول أو الفعل أو كلاهما وحتى على من كان يحلم في منامه خارج صربه وطارد كل من كان يحاول الاقتراب من أصوار السياسة المعادية لنظامه باسم الشعب من خلال أحزاب ونقابات وجمعيات حقوقية .
وعلى الصعيد الأمني وضع خطة بوليسية قد تكون فريدة من بين خطط الأنظمة الديكتاتورية العالمية حيث عمل على إضعاف دور الجيش بشريا وماديا ولجستيكيا ونفسيا بحيث لم تكن كتلته البشرية تتعدى الأربعين ألف فردا على أكثر تقدير ليس لها من القوة ما يجعل منها غير مؤسسة رمزية لا أنياب لها منكمشة ومنزوية ومهمشة بتهميش قادتها وأفرادها ، في حين عدد وقوى الأجهزة البوليسية بشريا وماديا ولجستيكيا حيث فاق عدد أفرادها أفراد الجيش بحوالي أربعة أضعاف ، وأطلق لها ولقادتها العنان ليعبثوا في الشعب بالفساد والترهيب باسم محاربة التطرف الديني والسياسي في الشارع والمساجد وفي الجامعات والمؤسسات الإدارية وفي الجمعيات السياسية والنقابية والأهلية وحتى الرياضية ..
وفي المجال الديني كان نظام هذا الديكتاتور الشرير آلة أوتوماتيكية تنفذ بدقة منتهية وبلا رحمة المخططين الصهيوني والصليبي في استئصال جذور الثقافتين العربية والإسلامية وفصل تونس ـ مهد العروبة والإسلام على الجناح الغربي للأمتين العربية والإسلامية ـ عن جسدها وتاريخها حتى استطاع أن يسلخ شعبها من هويته .
وأما على الصعيد الاقتصادي فكانت الطامة أكبر وأفسد حيث نصب شيطانه الأعظم بوجه ليلى الطرابلسي ونواسخها على هرم السلطة الاقتصادية الفعلية التي وضعت نظرية الربح السريع قاعدة لهيمنتها الاستبدادية على أركان الاقتصاد التونسي باعتمادها على الاقتصاد الخدماتي ووزعت آلياته وأدواته على أخواتها وإخوانها من الشياطين المفسدين في الأرض التونسية وانتزعت بذلك من الشعب كرامته وهذا هو نهج كل الحكام الفاسدين الضالين عبر تاريخ الإنسانية .
كل هذه الصور الفاسدة للنظام الشرير البائد الذي ابتلي به الشعب التونسي بالقوة أدت إلى فساد اجتماعي ممنهج في كل أركان الدولة واندثار ثوابتها الروحية والفكرية والتاريخية وهذه هي النظرية الجهنمية التي يعتمدها الفكرين الصهيوني والصليبي في محاربة الإسلام والمسلمين واسترقاق الجنس العربي ثم استئصاله ، وقد تمكن الشعب التونسي ( ولله الحمد ) من التصدي إليه ببسالة وإبطاله بعربته الخشبية الصغيرة البوعزيزية وهو ما لم تحاول فعله باقي الشعوب العربية ( بقية الشعب العربي ) منذ أن قسمت وجزئت رغم وجود ملايين البوعزيزيين بين ضلوعها يتمرغون تحت أقدام الشياطين بوجه ليلى وهذه هي حقيقة وضعنا إذا ما حاولنا أن نكون واقعيين ومنطقين مع أنفسنا وواقعنا ولو مرة واحدة في تاريخنا وتخلينا عن الضحك على ذقوننا بانقلابات عسكرية ونخبوية ونجعل منها أساطيرنا الخالدة ننام ونستيقظ على كوابيسها ..
ملحمة تونس التاريخية أبطالها عربة خشبية متهالكة يدفعها محمد البوعزيزي بعضلات مفتولة أنهكها ظلم الظالمين تدور عجلتاها في دورات متثاقلة بثقل شهادته العلمية وبما تحمله من شغف العيش تجر خلفها شعبا لم يكن في يوم من الأيام غير طيبا وكريما ومسالما أحكمت خنقه امرأة لم تكن غير مجرمة بأميتها المطلقة وبجشعها المتوحش وبنسبها البئيس وماضيها المتعفن ..
فإذا كانت ليلى واحدة في تونس مرغت الشعب كله تحت أعتاب برجها ومارست عليه كل أشكال وألوان الترهيب والتعذيب والاسترقاق إلى أن قسمت ظهر قيسها القبيح باستنفاذ خوف وصبر التونسيين وانفجار غضبهم وثورة ثائرتهم وباتوا ينادون ويصيحون ويطالبون برأسها قبل رأس الديكتاتور الطاغية فإن في بلدي ألف ليلى وليلى خلف كل رمز من رموز السلطة في كل ركن من أركانها تجر من ورائها ألف عائلة وعائلة تتصارع فيما بينها والشعب يسحق تحت أقدامها كما يسحق العشب تحت أقدام الفيلة المتصارعة .. قطعا سيطالب برؤوسهن البوعزيزيون المغاربة ذات يوم من أيام التاريخ أو بين عشائي إحدى لياليه وهم بالملايين يئنون على الأرصفة تحت أحدية وهراوات صممت خصيصا لرؤوسهم وضلوعهم ، ويذرفون الدموع على أبواب المساجد ، ويزاحمون القطط والكلاب الضالة في جوف صناديق القمامة .. يصارعون كوابيس الظالمين ليحافظوا على بقائهم حتى يزلزلوا حصونهم ويدمروا مواقعهم ويشنقوا حراسهم ونخبهم المنافقين الانتهازيين .. وهذا فرض من فرائض سلطان الكون على مكوناته وسنة من سنن الطبيعة .. فاللهم احفظ وطننا وأمتنا وكل الإنسانية من لهيب فتنة الشيطان ، ومن سلطان عقول لا تخشع وقلوب لا ترحم ، وجشع نفوس لا تقنع ووحشية بطون لا تشبع .