ذ.محمد السوسي
لعل من بين ما يميز أحكام الشريعة الإسلامية أنها أحكام شاملة تتناول جميع مناحي الحياة الإنسانية، فالمولود عندما يولد يستقبل وفق ما هو مقرر في أحكام الشريعة بل وهو جنين في بطن أمه له حقوق على المجتمع وعلى والدته، وإرضاعه له أحكام محددة كما حدد الزمان الذي يحتاج فيه إلى الرضاعة، وهكذا دواليك إلى أن يؤدي واجبه الحياتي وينتهي مثل ما ينتهي كل شيء.
ولذلك فإن الحديث عن الإرث بمعزل عن هذه الأحكام كلها هو تجزئة لأمور لا تقبل التجزئة، وهذا ما يذكر به باستمرار كل الدارسين والباحثين في شأن الشريعة وأحكامها فالذين يدعون مثلا إلى تحقيق المساواة بين الذكر والأنثى في الإرث نجدهم في نفس اللحظة يشددون في التكبير على كل زوج توانى أو تراخي في دفع النفقة ومستلزماتها بل إن كثيرا من الأزواج وفقا للإصلاح الجديد في المدونة ووضع أحكام جزائية تؤدي إلى السجن هم الآن وراء القضبان لأنهم أخلوا بواجب من الواجبات التي تفرضها عليهم التزاماتهم الزوجية وأنا هنا لا أريد أن ألتمس العذر لأي كان في موضوع الواجبات الملقاة على الأزواج من الطرفين، ولكن أريد أن أذكر بأمر يذكر به الناس دائما وهو أن الإخلال التوازن في جانب من جوانبه يؤدي إلى الإخلال بالنظام كاملا.
ولاشك أن المسلم الذي يؤمن بالإسلام عقيدة وشريعة لا يقبل الإخلال بالتوازن فيما بينهما، وحديث الجمعة يدور في هذا الأسبوع على مكانة الشريعة الإسلامية في المجتمع المسلم مع إثارة موضوع المقارنة بين الميراث والحدود لم قنن هذا و لم تقنن الحدود؟.
**************
ليس من أجل الجدل
عندما رأيت أنه من المناسب أو المطلوب المساهمة في النقاش حول الشبهة التي أثيرت في موضوع أحكام الشريعة الإسلامية المتعلقة بتوزيع التركة أو الإرث أو أنصبة ذوي الفروض كما جاءت في آيات سورة النساء في القرآن الكريم لم يكن الهدف هو الدخول في النقاش من أجل الجدال للجدال كما ورد في العنوان الصحفي (مثير للجدل) ولكن لمحاولة توضيح أن الموضوع ليس فيه مجال للأخذ والرد وبالأخص في التوزيع الذي ورد التنصيص عليه في القرآن الكريم، وهي كذلك مما لم يرد فيه خلاف أو نقاش بين الفقهاء على عكس ما ورد في عنوان مداخلة أحد الأساتذة في صحيفة من الصحف الوطنية، فأساس التوزيع بين الذكر والأنثى لم يجادل فيه أحد من الفقهاء المعنيين بالموضوع إذ هو أمر مجمع عليه، ولكن النقاش أو الآراء تتعدد أو تختلف في غير ذلك من المسائل التي ترد على الناس ويستشكلونها، وهذا شيء نجده واردا حتى عن الصحابة أنفسهم وهو مما لا مانع من أخذه وطرحه للنقاش أو التساؤل، وإن كان هذا بدوره أمر حسم فيه كذلك بعدما محص الفقهاء والمحدثون أمر النصوص الواردة من غير النص القرآني.
كلام غير دقيق
هذا ما يلاحظه ويدركه كل متتبع لمسار تدوين الفقه الإسلامي ولذلك فإن القول بأن الفرائض كلها موضوع خلاف قول غير دقيق فلا أحد خالف أو ناقش ما تم توزيعه قرآنا أو سنة صحيحة، وادعاء ذلك إنما هو من باب محاولة تسويق للدعوة إلى طرح قضايا ليست للنقاش دينا وليس سياسة، فالناس أحرار في الكيفية التي يديرون بها أمرهم في موضوع الثروة التي يكتسبونها ما داموا أحياء ومسؤوليتهم أمام خالقهم يتحملونها وحدهم بشرط أن يكون ما قاموا به متوخيا للعدل حتى فيما بين الأبناء كما ورد في الحديث (اتقوا الله واعدلوا بين أولادكم، هذا كلام رسول الله للذي جاء يخبره أنه أعطى ولده كذا فقال له أأعطيت لكل ولدك مثل ذلك قال لا فأجابه بالحديث أعلاه.
الإيمان هو الأساس
فالأمر هنا ليس إجبارا ولكنه موضوع الإيمان والالتزام بهذا الإيمان اما من يترك الأمور لأحكام الشرع لإعطاء كل ذي حق حقه فهو الذي لا يقبل ان يفرض عليه قانون يخرج بمقتضاه عن أحكام دين التزم به وآمن انه سيحاسب غدا بين يدي الله على مدى التزامه أو عدم التزامه بأحكام شريعته.
فالقضية هنا ليست حرية الأفراد، ولكن الأمر هنا يتعلق بمحاولة فرض تشريع تنسخ به شرع الله فيما نزل فيه وحي ثابت، ولا شبهة تعتمد عليها كما هو الأمر في الحدود وغيرها من الأحكام الأخرى التي لك فيها مجال أو متسع للاجتهاد.
الجانب الضعيف
وأغتنم هذه المناسبة على غير العادة التي تسير عليها في هذه الأحاديث لمحاولة توضيح بعض الأمور التي وردت من طرف بعض القراء منها ما ورد فيما كتبه بعض الإخوان الذي قال أن الناس أبطلت الحدود ولم تلتزم بها فلم لا نبطل أمر الميراث أم إن الأمر هنا يتعلق بالمرأة وهي الجانب الضعيف في المجتمع».
المساواة
والواقع والأمر ليس على هذا النحو من التفكير ولا من التناول، ذلك أن الحدود تطبق على الذكر والأنثى معا وإذا سقطت تسقط عنهما، وإثارة هذا الموضوع يدفع بنا إلى مناقشة الابتعاد عن أحكام الشريعة بصفة عامة وهذا هو بيت القصيد أو نقطة الارتكاز في الصراع الدائر في المجتمعات الإسلامية اليوم، فالناس الذين يصنفون اليوم بين متطرف ومعتدل ومتنطع وعلماني هذا التصنيف وما يتبعه من تصنيفات أخرى من أصولية وإسلام سياسي وهذا معتدل وآخر متشدد، وربما حتى إضافة الإسلام إلى دولة أو أسرة حيث نجد اليوم أوصاف متعددة كثيرة حول العمل الإسلامي والقائمين به.
التصنيف والحاكمية
وهذا يثير الحديث عن التصنيفات التي تعتمد من بين ما تعتمد عليه على موقف هذه الجماعات أو المجموعات أو حتى الأشخاص من آيات الأحكام، وبصفة خاصة ما ورد في سورة المائدة: «ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون الظالمون الفاسقون» وقوله تعالى: «فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت وسلموا تسليما».
وهذه الآية الأخير هي آية الحاكمة مع قوله تعالى: «إن الحكم إلا لله» ولذلك فإن الحدود وغيرها من بقية الأحكام هي مدار الخلاف بين الحركات الإسلامية وغيرها من العلمانيين الداعين إلى فصل الدين عن الدولة.
أصل الدعوة
ولعل من المناسب هنا التذكير بما كتبه الأستاذ علال الفاسي في هذا الموضوع في كتابه دفاع عن الشريعة اذ كتب ما يلي:
«على أن هذه الفكرة (فصل الدين عن الدولة) خرجت كما بينه المسيو (طارديو) في كتابه (الشعب المأسور) ن الأوساط الكاثوليكية في ألمانيا بعد انتصار البروتستانتية وتوليها الحكم هناك فطالب الكاثوليكيون بفصل الدين عن الدولة لئلا يخضعوا لحكومة بروتستانتية. ومن المعلوم أن البروتستانتية كانت رد فعل عنيف أشعلت حربا دينية في أوروبا استمرت مدة ثلاثين عاما –وانتهت بإبرام معاهدة وستفاليا، التي كان أهم ما حققته:
1 – القضاء على نفوذ الباب في رئاسته الزمنية على الدول، فلم يعد هناك رئيس أعلى يسيطر على الدول الأوروبية.
2 – إقرار مبدأ المساواة بين الدول المسيحية جميعها، دون الدول الإسلامية الخ الخ ...
وبناء على هذه الاتفاقية انعقد مؤتمر فيينا سنة 1810 بدعوة من طرف الباب وإنما اتفق عليه الدول بداعي المصلحة الأوروبية.
وأهم ما أنتجه هذا المؤتمر مما يعنينا هنا:
1 – ضرورة حفظ التوازن الدولي في أوروبا.
2 – التحالف المقدس. وقد قالوا أن المقصود منه هو تمكين قواعد الأخلاق المسيحية داخليا وخارجيا بين الدول وذلك في نظم الحكم لكل دولة في الداخل، وفي العلاقات الخارجية بين جميع الدول في الخارج. وانضم إلى هذا الحلف لويس الثامن عشر بمجرد عودة النظام الملكي لفرنسا.
فالمسيحية لم ترفض من طرف الدول الأوروبية ولا الأمريكية مدين سماوي ولا كخلق وإنما رفضت كسيطرة لبابا يعتبر نفسه الرئيس الأعلى لدول أوروبا وكتحكم من الرهبان في عقائد المؤمنين وتصرفاتهم.» (ص:59-60).
تقليد لا مبرر له
وهذا الصراع في الواقع ليس وليد اللحظة ولا وليد العقود الأخيرة، ولكنه بدأ عندما كانت بعض الأقليات المسيحية في الدولة العثمانية تتقدم بمطالب سياسية وتشريعية مختلفة وأشد بوقوع البلاد الإسلامية تحت النفوذ الاستعماري وشرع في سن التشريعات مغتنما فرصة انعدام تقنين للشريعة الإسلامية حيث كان الناس يلجأون في أغلب البلدان الإسلامية إلى (كُتُبِ) ما جرى به العمل أو إلى الفتاوى أو إلى كتب الفقه كل حسب المذهب الذي يقلده، وعلى أي حال فالدعوة إلى هذا الفصل تقليد لا مبرر له.
بداية التقنين
وعندما وضعت الدولة العثمانية "المجلة العدلية" التي قننت لأحكام الشريعة وفق المذهب الحنفي كان الاستعمار قد تمكن من الدفع بقوانينه وتشريعاته إلى كل الدول الإسلامية التي احتلها، وترك ما يتعلق بأحكام الأسرة والميراث لما يسمى بالمحاكم الشرعية أو القضاء الشرعي ولذلك عندما أراد المسؤولون في الدول الإسلامية التي تحررت من الاستعمار تدوين الفقه الإسلامي وجدوا أنفسهم مقيدين بالقوانين التي وضعها الأجانب، فقانون العقود والالتزامات المغربية مثلا هو من وضع الحماية الفرنسية عام 1913 مع تعديلات بين الفينة والأخرى، وان كان هذا القانون حسب ما ذكر مؤرخوا التدوين امتاز بذكر مصادر موارد ضمن أحكام الفقه الإسلامي. وكذلك ما يتعلق بالقانون الجنائي فهو مستمد من القوانين الفرنسية ولذلك لم تدرج الحدود الشرعية في مضمون القانون الجنائي سواء تعلق الأمر بالذكر أو الأنثى معا من تطبيق الحد.
بين الإلغاء والتعليق
هذا جانب والجانب الثاني هل الناس وافقت من تلقاء نفسها على إلغاء الحدود وعدم تطبيقها؟ فهناك حاليا بعض الدول تأخذ الأمر بتطبيق الحدود، واذكر أن الأستاذ الدكتور طارق رمضان توجه في أحد محاضراته إلى دعوة تلك الدول لتوقف تطبيق الحدود الشرعية نظرا للظروف التي تجتازها الأمة، وهو لم يطلب بإلغائها، ولكنه طلب بتوقيفها ولاشك أن الحدود يلتزم الناس في تطبيقها بشروط ضرورية وأساسية، وورد أن الرسول عليه السلام قال ادرءوا الحدود بالشبهات وعمر عندما وافق تطبيق الحد عام الرمدة أو عام الجفاف والجوع وقد اعتبر هناك شبهة تدرأ عن الناس الحد، وهو جو المسغبة والجوع الذين قد يلجآن الناس إلى السرقة، وهو أمر لا يمكن معه تطبيق الحد، وهو عندما أوتي له بأحد الناس منهما بالسرقة أجاب أنه كان يحتاج إلى ما يأكل فلم يطبق عليه الحد ولكن ألزم من كان ملزما بنفقته بإعطائه قوته وما يكفيه وإذا لم يفعل فإن الحد يطبق على من الجأه إلى السرقة والحوادث من هذا النوع كثيرة ولذلك تطبيق الحدود والتعزيرات الأمر فيها يرجع إلى الحكومة والمشرعين أي ولاة الأمور.
لجنة التدوين
وعندما استقل المغرب تكونت لجنة لتدوين الفقه الإسلامي وتقنينه بمعنى أن الحدود كانت من بين ما سيقنن ولم تتمكن من انجاز سوى ما يتعلق بالأحوال الشخصية، ولم يتم تدوين بقية أبواب الفقه بما فيها الحدود و التعزيرات، والأستاذ علال الفاسي الذي كان عضوا ومقررا عاما لهذه اللجنة رغم أنه كان يرغب في إتمام اللجنة عملها إلا أنه مع ذلك لم ير أن عدم التدوين هو العقبة في وجه تطبيق الأحكام الشرعية لأنه يرى أن المغرب مع عدم التدوين:
إقليمية القضاء
«فقد حافظ المغرب طيلة عهوده الإسلامية، على إقليمية القضاء وإقليمية التشريع، فكانت المحكمة الشرعية، هي القضاء الوحيد الذي يرجع إليه المتقاضون من أي جنس كانوا وأي دين كانوا ولم تكن مصلحة المظالم أو بنيقة الشكاية محكمة بالمعنى الحقيقي للكلمة. وإنما كانت الأولى مرجعا لتطبيق الأحكام التي يقضي بها القضاة، على من لا تنالهم الأحكام أو يصعب على القاضي تنفيذها عليهم فكان والي المظالم يقوم بتطبيقها عليهم وإجبارهم على العمل بمقتضاها».
الشكايات
ويفصل في أمر الشكايات فيقول:
«وكذلك الشكايات كانت مرجعا للناس يبثون فيها شكواهم مما يظنون أنه حيف وقع عليهم فيصدر الأمر بتنفيذ الحكم أو إعادة النظر فيه إلى القاضي إذا رأى الإمام انه فيه مخالفة للشريعة، وذلك عملا بالحديث الشريف «كل عمل ليس عليه أمرنا فهو رد، أي مردود على صاحبه». وإذا كان المواطنون جميعا يرجعون إلى قضاء واحد فإنه كانت هناك أمورا استثنيت بالنسبة للمواطنين اليهود المغاربة وفي هذا يقول علال:
التسامح
ويتحدث عن التسامح مع اليهود المغاربة فيقول:
«نعم كان هنالك نوع من التسامح مع الإسرائيليين فكانوا يرجعون في شؤونهم الدينية إلى أحبارهم لا بصفتهم قضاة ولكن بصفتهم محكمين أو قضاة صلح على الأكثر، وكان محل اجتماع هؤلاء الأحبار لا يسمى محكمة وإنما يحمل اسم بيت دين، أي دار الديانة، فإذا رجعت إليهم قضية من الأحوال الشخصية مثلا واستطاعا الإصلاح فيها مضى ما فعلوه، وإلا ردت القضية إلى المحكمة الإسلامية التي هي المرجع لجميع المواطنين. إما في شؤون المعاملات والعقوبات فإن الأمر بالطبع يرجع من أول مرة إلى القاضي الإسلامي المختص.
وهذا ما يتفق مع الحكم الشرعي. فقد قال الماوردي في الأحكام السلطانية: إن القاضي المسلم هو المرجع النهائي عند اختلاف الخصوم.» (دفاع عن الشريعة ص:23)
حسنات وسيئات
بل إن علال الفاسي ينقل عن المحمصاني أن التدوين له حسنات وله سيئات ولذلك فهو لا يرى أن عدم التدوين يقدم في تطبيق أحكام الشريعة وجاء في ما نقله عنه المحمصاني ما يلي:
ثم نشرت باسم (مقدمة في أحياء علوم الشريعة) ص: 100 ما يأتي:
إن للتدوين من الناحية العلمية والعملية حسنات وسيئات. فمن حسناته أنه يجعل الأحكام الشرعية واضحة، فيعرف الناس إلى حقوقهم وواجباتهم في أمور المعاملات ويسهل على أولي الأمر تطبيقها، وعلى القضاة الحكم بمقتضاها في القضايا والمنازعات التي تعرض عليهم.
تجميد الاجتهاد
ويذكر من بين سيئات التدوين أنه يوقف الاجتهاد.
ولكن إلى جانب هذه الفوائد توجد للتدوين بعض السيئات فالتدوين الرسمي يوقف الاجتهاد، لأنه يلزم الناس والقضاة جميعا على إتباع مذهب واحد، أو مادة واحدة أو فصل واحد. وهو من نوع الحجر على الأحكام. لأنه يمنع تطورها مع الحاجيات المتجددة.
ونرى اليوم هذا الخلاف في التدوين وعدم التدوين قائما بين البلاد والشرائع الغربية، فالفرنسيون ومن حذا حذوهم أخذوا برأي موجب التدوين، وساروا عليه، ثم تركوا للمحاكم حق الاجتهاد في تفسير النصوص وفي تطبيقها على القواعد العملية، وعلى القضايا التي تعرض عليهم.
اختيار عدم التدوين
ولكن القلة من البلاد والشرائع لم تأخذ بهذه النظرية، ولم تدون قوانينها، وأهمها اليوم شرائع الانكليز والأمريكان. فهؤلاء يرون أنه لا يستساغ أن تصاغ الأحكام القانونية، ومن ثم ان يوقف الاجتهاد، بنصوص ثابتة إلزامية، فشريعتهم مجموعة اجتهادات قضائية. مبنية على تقاليد وعلى عادات معروفة منذ القديم. يضاف إليها بعض النظم والقوانين التي تصدرها الدولة من آن إلى آخر.
لأجل توجيه التشريع في وجهة معينة، أو لأجل إيضاح بعض الأمور الغامضة فيه.
وان التدوين، علاوة على السيئات والعقبات التي ذكرت يصطدم أحيانا ببعض الصعوبات العملية الخاصة التي تختلف باختلاف البلاد.
اختلاف العادات
ففي بريطانيا تصدم هذه المسألة باختلاف القانون والعادات من منطقة إلى أخرى، فانجلترا مثلا لها قوانين وعادات مختلفة عن القوانين والعادات المتبعة في سكوتلاندا. وكذلك في الولايات المتحدة الأمريكية ترى لكل ولاية منها نظمها وأحكامها وتشريعها ونرى في كل منها عقبات عملية خاصة تقوم بوجهها عندما نفكر في التدوين العام.
الرفض الواضح
بل إن أمر التدوين ليس سليما حتى بالنسبة لغير البلاد الانجلوكسونية فعلال ينقل كذلك عن أحد أساتذة القانون الفرنسي ما يلي:
«وقد بسط الأستاذ ف. جيني العميد لكلية الحقوق بنانصي في أول كتابه (علم وتقنية القانون الايجابي الخاص) حركة الأفكار التي قامت في هذا المعنى في فرنسا والنمسا وإيطاليا واسبانيا وبلجيكا وهولاندا وفي اليونان وروسيا، والتي استخلص منها ما يلي:
«إذا أردنا أن نحدد ما ينبغي الاحتفاظ به من الأعمال السابقة كأمر مسلم به في ميدان مناهج القانون، آخذين كمقياس اتفاق النقاد الأساسي على عيوب التناقض الحقيقي أمكننا أن نعبر بهذه الجملة «الرفض الواضح النهائي لتوهم أن القانون المكتوب يحتوي على كل القانون الايجابي المعمول به».
مناقشة المخالفين
ثم يقول بعد مناقشة المخالفين: فهذه الحقيقة يمكن أن تعطينا نتيجتين مهمتين، فمن جهة لا يمكن دفع مبتسر لكل أسلوب للتعبير عن القانون الايجابي (مصادر بالمعنى الواسع للكلمة) لا ينحصر في تكييف قانوني. ومن جهة أخرى فليس من المشروع ومن العبث أيضا، أن ندعي لمجرد المنطق فائدة المبادئ التي يحتوي عليها القانون المكتوب بحيث تتبع مهما كان الأمر ويعمل بها في كل النوازل القضائية، وهي نتائج سلبية تماما في الظاهر مثل الفكرة التي استخلصت منها.. ولكن إذا أخذت مع تلك الفكرة أعطتنا ما يلي:
النظام القضائي
بحيث أن القانون المكتوب منفصلا عن كل مصدر آخر، ومهما أنعش عن طريق المنطق، لا يمكن أن يسد حاجات النظام القضائي، وبمقتضى باعث لا يمكن دفعه من الحياة الاجتماعية، فإن هذا النظام يجب أن يجد في مكان ما القدرة التي تضمن له غايته العليا. فيجب إذن خارج وفوق كل قانون، البحث عن مبدأ أو مجموعة مبادئ تستطيع أن تستجيب لسد الحاجة.
النتيجة الثمينة
وبالاختصار فانه عن طريق القوة السلبية وحدها التي يعترف بها يتأكد وجود مجهول يبقى علينا أن نكتشفه، وهذا يكون نفسه نتيجة ثمينة، وهو وحده كاف ليسهر ويوجه نحو اكتشافات جديدة.
وزاد قائلا نم بعد: إن هذا هو المعنى نفسه للقانون الايجابي الذي تعمقه الآن قبل كل شيء. وذلك يجعله في داخل العالم الاجتماعي الذي هو عنصر ممتزج منه وبدرسه أثناء سير القوى الفكرية والأخلاقية للإنسانية التي هي وحدها القادرة على تقييمه.» (دفاع عن الشريعة ص:196 وما بعدها)
وهكذا نرى أن مسألة الحدود لم تلغ من اعتبار المسلمين الذين يرون أنها جزء من شريعتهم ومن تم جزء من عقيدتهم في أن ما جاء به القرآن الكريم هو الحق الذي يشيع العدل بين الناس، ويقيم مجتمعا يشعر فيه الناس أنهم جميعا يتعبدون ويتجهون إلى الله ليس فقط بقلوبهم وفيما يخصهم ولكنهم يؤمنون كذلك أن العلاقة بينهم وبين مجتمعهم وغيرهم من إخوانهم الذين يعايشونهم داخل المجتمع، فكل ما ينظم المعاملات بين الناس بقطع النظر عن أديانهم هو جزء مما ورد به الشرع ويتعبد به وما تفرع عن هذه النصوص الشرعية من فهم الناس هو الذي يمكنهم أن يجادلوا فيه ويناقشوه ويقارنوا بين المفاهيم ليأخذوا بأحسنها.
*ذ.محمد السوسي
أستاذ الفكر الإسلامي