محمد السوسي
الإسلام ومكانته في أرض الإسلام والمسلمين، وعلاقته بغيره من الأديان والمعتقدات، ومستقبله في عالم متغير، كل شيء فيه يتحرك، والحركة من طبيعتها ذات توجهات متباينة وربما متعارضة، فهي ليست في منحى واحد واتجاه واحد، والناس إزاء الإسلام أمام هذه الحركة مختلفون فمنهم من يرى أن الإسلام يجب أن يكون هو الأساس لهذه الحركة في اتجاه الصعود نحو القيم والمثل العليا التي جاء يحملها إلى الناس منذ أربعة عشر قرنا، ولعل أن يكون أمر القرون والسنون أكثر من ذلك إذ الإسلام هو الدين الذي عرفته البشرية منذ بعث الله الرسل والأنبياء وبدأت صلة الأرض بالسماء عن طريق الوحي، والناس من خلال تجاربهم مع هذا الدين يقرون أنهم كلما اقتربوا منه كلما شعروا بطمأنينة النفس وهدوئها، وكلما ابتعدوا شعروا بالقلق والاضطراب بل وبالضياع والتمزق كما يقول القرآن: «ومن يشرك بالله فكأنما خر من السماء فتخطفه الطير أو تهوي به الريح في مكان سحيق»، وهذه الحقيقة عبرت عنها أديان أخرى بأسلوب مختلف وطريقة مختلفة، وهي رغم ما اعتراها نظرا لطول الزمان وتعاقب القرون وانحرافات البشر، ولكنهم يجدون أنفسهم على الأقل في الجزء الذي لا يزال يجمع بين الناس جميعا في موضوع الإيمان بالدين وهو التوحيد وما يوفر من استقرار النفس وسكونها، وهذا يعبر عنه كثير من الدارسين والباحثين، غير أن الناس في سياق أديان أخرى غير الإسلام لا يشعرون بهذه الحالة وهم يمارسون حياتهم العادية بين الناس وهم يغدون ويروحون، لأن هناك شعورا بالانفصال بين ما هم فيه من مشاغل الحياة، وما استقر عليه واقعهم الروحي والديني، وهو ما لا يشعر به المسلم بالفهم الخاص للإسلام الذي جاء به محمد عليه السلام إذ في هذا الإسلام الحركي يشعر الإنسان وهو يمارس عمله أنه بالفعل هو في العبادة، فالعبادة لا تعني اللجوء إلى المعبد والابتعاد عن الناس وعن الحياة وصخبها بل الإنسان يمارس هذه العبادة وهو يعيش صخب الحياة بل وصراعاتها ما دام يراعي في كل ذلك حدودا معينة، هذه الحدود التي لن تحد من حقيقة ممارسة هذه الحياة ممارسة إيمانية عقدية، وحول توفير هذا الواقع الذي يمتزج فيه الروحي بالمادي والزمني هو ما يشغل الناس في دنيا الإسلام، وهو ما يجعل الكثير من الناس يشقون في كل وقت ويتعرضون لكثير من البلوى في سبيل إقناع الناس بحقيقة أن الدين هو الحياة وأن الحياة هي الدين، وأن الدعوة الإسلامية الحقة إنما هي دعوة للحياة الصحيحة، هكذا يؤمنون ويعتقدون وهذا هو الواقع في منظور الإسلام، أو لم يقل القرآن «أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَٰلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ».
والناس اليوم في ديار الإسلام يكابدون ويعانون فهم بين من يفهم الإسلام نورا وحياة وبين من اقتنع بدعوى الغير ويرى في الدعوة الى الحياة الحقة في ظل الإسلام ظلامية وتخلفا وانغلاقا ولكن صوت الإيمان في نفوس المجتمعات الإسلامية لا تصغى الا الى دعوة القرآن التي صرخ بها محمد عليه السلام في أودية مكة ورددها الكون فهو قد صرخ: (يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم).
إن فهم الإسلام على هذا المنحى وهو أنه الحياة الكاملة المتكاملة هو ما فهمه الناس من الإسلام منذ كانت الدعوة غضة طرية فكانوا يستهدون بتوجيه الرسول وهو بين ظهرانيهم ثم بعد ذلك بالكتاب والسنة وسارت الحياة على هذا المنحى، وليس معنى هذا أن الناس صاروا ملائكة أطهارا، ولكن معناه أن الناس كان المقياس والميزان لديهم الذين يَزِنُونَ ويقيسون به الأشياء هو الإسلام.
هذا الفهم فهمه الغربيون وأعداء الإسلام قبل المسلمين وفي هذا الحديث نستشهد بنص للمستشرق الانجليزي جيب حيث يحدد ما فهمه وما فهمه غيره بعد ذلك وما هو الواقع الحقيقي بالنسبة للإسلام وهو ما جعل العقاد وهو محور حديثنا في هذا الأسبوع كما في الأسبوع الماضي حين قارن بين الإسلام وبين غيره من فلسفات ودعوات، وكان الإسلام في رأيه راجحا ومتميزا.
************
السلسلة الذهبية
«الإسلام في القرن العشرين» هو كتاب من سلسلة كتب خصصها «العقاد» للحديث عن الإسلام من وجهة نظره وعن دور الإسلام في مواجهة الهجمة الاستعمارية في القرن التاسع عشر والقرن العشرين، وتتحدث كذلك عن الدور الذي سيلعبه الإسلام في مواجهة الفلسفة المادية الغربية التي تواجه الإسلام ويواجهها، وكذلك الحلول التي تتبناها هذه الفلسفات لحل المشاكل الاجتماعية والاقتصادية التي تعترض الإنسان في القرن العشرين، وفي هذا السياق يدخل كذلك كتابه الذي وضعه في سنة 1957 تحت عنوان «لا شيوعية ولا استعمار» وكذلك كتابه «حقائق الإسلام وأباطيل خصومه». في نفس السنة وكتابه عن «الشيوعية والإنسانية في شريعة الإسلام» وغيرها من الكتب التي تندرج في هذا السياق، وهي مما يمكن ان يطلق عليها اسم السلسلة الذهبية، في كتابات العقاد، وان كان الاسم المتداول (الإسلاميات) أو (العبقريات)
خلاصة ومنهاج
وإذا كان وضع هذه السلسلة من المؤلفات جاء بعد الخمسينات من القرن الماضي بمعنى أنها من إنتاج ما بعد الستين من عمر العقاد أي أنها تحمل تجربة ستة عقود من العمل الدؤوب في مجال الصحافة والأدب والفكر، فهي نتيجة وخلاصة لهذه المرحلة وللتطور الذي عرفته الحياة السياسية والاجتماعية في العالم، وفي العالم العربي بعد الحرب العالمية الثانية التي خصص إنتاجه خلال الحرب وبعدها بقليل في عقد الأربعينات من القرن الماضي للكتب التاريخية التي تناولت الشخصيات المتميزة في تاريخ الإسلام وبعبارة أدق العبقريات التي كتبها العقاد بمنهاج خاص، وهو المنهاج الذي استفاد من مناهج الغرب ولكن بِنَفَسٍ غير معاد للجانب الإيماني في الموضوع فرغم ما يقوم به من تحليل تاريخي لواقع سابق أو مواكب لتكوِّن الشخصية إلا أنه لا يبعد إبعادا كليا لتدخل العناية الإلهية أو القوة الغيبية في التأثير والتوجيه.
عاصفة نقدية
وأيا ما كان فإن هذه السلسلة من العبقريات لم تمر دون أن تواجه بموجات من النقد بدء باستعمال كلمة "عبقرية" وهو أمر لم يكن مقبولا لدى الكثير من العلماء والنقاد في ذلك الوقت والى الآن، وقد سبق لنا في سلسلة المقالات التي كتبناها "عن الشيخ مصطفى صبري" آخر شيوخ الإسلام في الدولة العثمانية ونحن نستعرض بعض ما كتبه في نقد الحياة الفكرية والثقافية في مصر، عرض موقفه من كتاب "عبقرية محمد" ولعل من ابرز من وجه نقدا واضحا لمنهاج العقاد في هذا الصدد هو الأستاذ (غازي التوبة في كتابه "الفكر الإسلامي المعاصر"، وهنا لا بأس من الإشارة إلى ما كان يربط "العقاد" بالمفكر الإسلامي الشهيد «سيد قطب» من علاقات أدبية متينة إذ كان الشهيد قطب مناصرا للعقاد في مواجهة خصومه وكان أشد خصوم العقاد "مصطفى صادق الرافعي" ولكن مع أنه كان من رواد الأدب الإسلامي الرفيع فإن (سيد قطب) مال إلى جانب خصم الرافعي (العقاد).
لقاء وافتراق
ونجد الاثنين معا في الأربعينيات عندما كان العقاد يكتب العبقريات كان (سيد قطب) يكتب عن (التصوير الفني في القرآن) و(مشاهد القيامة في القرآن) وبينما كان يدعو إلى الثورة على الحكومة المصرية لأنها حكومة ظالمة مستبدة ويكتب عن العدالة الاجتماعية في نهاية عقد الأربعينيات ويميل نحو الشباب الإسلامي التأثر نجد أستاذه العقاد وهو يقف إلى جانب حكومة النقراشي التي كانت في مواجهة مع "الإخوان المسلمين" ورغم أن (سيد قطب) لم يكن بعد قد التحق بالجماعة إلا أن إرهاصات هذا الالتحاق كانت ظاهرة وبادية من خلال ما ينشره في كتابات تلتقي مع الطروحات التي كان الإخوان يدعون لها اعتمادا على فهمهم للإسلام ودعوته، واهم ما كتب في هذه المرحلة «العدالة الاجتماعية في الإسلام» ذات إهداء إلى الشباب المسلم الذي كان يراه من وراء الغيب آتيا لحمل المشعل نحو الأمام.
على ثغر الدعوة
وعلى أي حال فإن العقاد وقد تم التوجه بعد الثورة المصرية عقب انقلاب 1952م السعي للإجهاز على (التوجه الاخواني) قام بدور مهم في إبراز مميزات الإسلام تجاه المذاهب الاجتماعية والعقائد المادية، وذلك أفاد في الواقع الدعوة وان كان بطريقة غير مباشرة، لأنه كان يضع أمام المثقف والشاب المصري والمسلم بصفة عامة الإسلام وهو يقف ندا بل هو في ندية متميزة أمام المذاهب الأخرى، وبذلك يعتبر ما قام به العقاد في صيرورة الحركة الإسلامية شيئا كبيرا ومتميزا، فهو ليس داعية، وليس شيخا مهمته شرح العقائد والعبادات، ويدعو الناس للالتزام بالفرائض والسنن والمستحبات فذاك واجب الداعية وعليه هو أن يقوم بدور آخر.
الاستهداء بالعقل
وإذ كان العقاد مفكرا متميزا فإنه أنتج من خلال دراسته مواضيع تستهدي بالعقل والمنطق توضيحا لعقائد الإسلام وأهدافه ورسالته الإنسانية وقيمه في العدل والكرامة وحقوق الإنسان وإيصال الحقوق لأصحابها ومعارضة للظلم الاجتماعي، وهكذا كان الرجل وهو يكتب عن الإسلام وبقائه واستمراره بطريقته الخاصة ما يربط بينه وبين مريده الأدبي سابقا «سيد قطب» فالشهيد وهو وراء القضبان يكتب «المستقبل لهذا الدين» بينما العقاد يتكلم عن الإسلام وتغلبه على اكبر فلسفة مادية اجتماعية» تهدد العقائد والأديان في القرن العشرين حيث تنبأ بنهاية هذه الحملة الماركسية قبل إعادة طبعه الكتاب مرة ثانية حيث ختم مقدمة كتابه عن (الشيوعية والإنسانية في شريعة الإسلام).
تنبؤ صادق
«وكل ما بقي اليوم من الماركسية فهو هذه المذاهب الاشتراكية «الديمقراطية» التي قامت في أرجاء العالم على غير أساس من دعاوي الماركسيين، وقد تعاد طبعة هذا الكتاب مرة أخرى وهو من قبيل الكلام التاريخي المحفوظ بغير حاجة من وقائع الزمان إلى برهان عليه لأن الواقع الملموس باليدين سوف يغني عن ذلك البرهان (ص.11).
ومنهاج ومنهاج
والواقع أن ما جاء في هذا الكتاب الذي هو مقارنة بين النظام الإسلامي وما كانت تدعو إليه الشيوعية من فلسفة مادية وأساليب العدل والمساواة يعتبر جوابا على ما كتبه "غازي التوبة" وهو يحاول أن يجعل ما كتبه العقاد في مجال الدفاع عن الإسلام دفاعا محايدا، وما هو بالمحايد بمقاييس الأسلوب الفكري والمنطقي في الإقناع وإنما للعقاد ميزة هي ميزة العقل والمنطق في العرض بينما غيره يمزج به بين هذين، والعاطفة التي هي من سمات الدعاة وليس من سمات الفلاسفة والمفكرين، فذاك منهاج وهذا منهاج وهنا نجد أن العقاد وهو يقارن بين المذهبين يدخل في صميم الدعوة بل هو يبشر بنجاح الإسلام فيما فشل فيه غيره.
للتأمل
ولا بأس في هذا المقام أن ندعو القارئ إلى أن يتجشم معنا قراءة هذا النص ان لم يكن قد قرآه أو يعيد قراءته بالكامل إذا كان قد قرأه وسيجد أن ما تنبأ به العقاد في منتصف القرن العشرين لم يكد ينتهي القرن حتى تحقق وكانت الشيوعية والمجتمعات التي كانت تعيش في كنفها وتحت ظلالها قد أخذت منحى جديدا واحتفل بهذا التطور الغربي الليبرالي واعتبر ذلك نهاية للتاريخ يقول العقاد وهو يستشرف المستقبل وقد استعرض موقف الإسلام من كثير من الشبه والقضايا التي يرددها الغرب والمستغربون ولا يزالون.
بين مجتمع ومجتمع
«وننظر إلى المجتمع الإنساني الذي يقيمه الإسلام بعد هذه النظرات المجملة إلى مسألة الرق ومسألة المرأة ومسائل المعاملات ومسائل العقوبات، فنحن إذن خلقاء ان نرى فارقا بين المجتمعين –مجتمع الإسلام ومجتمع الشيوعية –لا تستوي فيه وجوه القياس، لأنه فارق بين وهم مفروض على التخمين، وبين حقيقة واقعة من حقائق الماضي والحاضر وحقائق المستقبل كما يراها من يشهد رأي العين.
الافتراض والواقع
فالمجتمع الشيوعي فرض خيالي قوامه دعوى المدعين أنه سيأتي –أن أتى- سويا بغير طبقات، وأن الشرور الاجتماعية وشرور الطبائع كافة ستفارقه أبد الأبدين إذا فارقه شيء واحد، وهو رأس المال.
هذه هي الخرافة التي يسمونها بالمجتمع الشيوعي الذي سيحق غدا متى حقت الدعوى أو حق الفرض والتخمين».
أما المجتمع الإسلامي فهو هذا المجتمع الإنساني المتجدد الذي يحق على سنة التقدم بما يحققه من مبادئ الإسلام، وهي مبادئ لا تنتشر وتنطوي في مدى أيام أو مدى أعوام..»
مساواة ومساواة
ويقارن العقاد بين المساواة التي يحققها المجتمع الإسلامي وتلك التي تعد بها الشيوعية فيقول:
يقوم المجتمع الإنساني على المساواة بين الناس بغير تفرقة بين الأنساب والألوان والأجناس، ولا تمنعه المساواة أن يعطي المزايا النافعة حقها من الإنصاف لمصلحة المنتفعين بتلك المزايا في جميع الطبقات، ولا تفاضل في الحقوق بالمال أو بالوراثة، فإنما يكون التفاضل بينهم بالعلم والعمل: «هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون».. «لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولى الضرر والمجاهدون بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة». ويتعرض العقاد في الفقرة التالية لقضية كثيرا ما اثارها البعض ولا يزال وهو أن الإسلام وهو ان يحل المشكل الاجتماعي ومشكل الفقر بالصدقة ومن غير تطويل ممل، فالعقاد يختصر الامر فيما يلي:
معضلة الفقر
وإذا وجدت درجات الثروة فلا ينبغي أن تكون حكرا تستأثر به طبقة واحدة ولا أن تكون «دولة بين الأغنياء، ولابد في كل ثروة من حق معلوم للسائل والمحروم».
والإسلام لا يحل مشكلة الفقر بالصدقات المفروضة على الأغنياء لمعونة المحرومين والمعوزين، ولكنه جعل هذه الصدقات منذ ألف وأربعمائة سنة لمن جعلتها لهم دول العصر الحديث من العجزة والمرضى والشيوخ والمنقطعين، وحل مشكلة الفقر «أولا» بخلع القداسة التي كانت تجلله في كثير من الأديان، ثم حلها بإيجاب العمل على القادرين وإيجاب تدبيره على الإمام المسئول لكل قادر عليه.
التاريخ المتصل
والمجتمع الإسلامي لا يهدم شيئا من كيان الاجتماع الذي استفاده بنو الإنسان من أطوار حياتهم الاجتماعية في الحقب الطوال، لأن المفهوم من سير الهداية الإلهية كما يسردها القرآن الكريم أن حياة النوع الإنساني تاريخ متصل يتمم بعضه بعضها وتنتهي إلى التعارف بين الشعوب والقبائل في أخوة عامة لا فضل فيها لقوم على غيرهم إلا بالعمل الصالح، ولهذا يحرص الإسلام على كيان الاجتماع في الشخصية الفردية وفي الأسرة وفي الأيمان بوحدة النوع، ولا يهدم بنية من هذه الأبنية الحية التي «تحققت» لتعيش بين القوى العاملة في المجتمع لا لتنهدم وتندثر في حقبة بعد حقبة، كأنها من الشرور التي تولد على الرغم منا، وتعود كلما استأصلناها كرة بعد كرة ولا ندري من أين تعود!
وقد جاء في القرآن الكريم في وصف أهل النار أنهم (كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَّعَنَتْ أُخْتَهَا حَتَّىٰ إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولَاهُمْ رَبَّنَا هَٰؤُلَاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِّنَ النَّارِ ).
المجتمع الإسلامي لا ينهدم
ويقارن العقاد بين المجتمع الذي يسعى للخير والآخر الذي يسعى للشر ومن يستحق منهما اللعنة ليقول ان المجتمع الإسلامي لا ينهدم.
ففي هذا الوصف «للعالم الملعون» بيان للفارق في تقدير الإسلام بين المجتمع المثالي في الشر والفساد والمجتمع المثالي في الخير والصلاح، ويصدق الوصف المثالي لعالم الشر والفساد على التاريخ الإنساني كما توهمه الشيوعيون.. كلما تعاقبت أطوار التاريخ لعن الأواخر منها أوائلها وجاء الحلف الأخير ليصب النقمة والعذاب عليهم أجمعين..
كيان الاجتماع في الإسلام لا يتهدم بل يزداد قوة ويدعمه الإسلام ليؤسس به بنيانا مرصوصا ينشد بعضه بعضا ويتعاون على البر والتقوى ولا يتعاون على الإثم والعدوان.
بين الأمس واليوم
هذه بعض الأفكار والآراء بل الحقائق التي ضمنها العقاد لكتابه وهو يناقش منهاج الشيوعية ومنهاج الإسلام، ومقياسه دائما هو ما مدى التجاوب بين حقائق الواقع الإنساني، وبين الدعوة الشيوعية، وكيف أن الإسلام امتاز نظريا وعمليا من الناحية الواقعية، وهذا في الواقع قد لا يرضي أعداء الإسلام وخصومه لأنه يسقط من أيديهم ورقة يعتبرونها رابحة، ومن تم فالعقاد في نظرهم رجعي ومتخلف كان هذا في ذلك الزمان والشيوعية في قمة مجدها والرفاق الشيوعيون يتباهون بالمؤتمر العشرين للحزب الشيوعي السوفياتي وخطاب خروتشوف في هذا المؤتمر الذي هاجم ستالين والستالينية، وهذا الرجل أصبح له صيت كبير هو وزميله «بولكانين» في تلك المرحلة ولكن العقاد يضرب بكل هذا وجه الحائط وهو في نفس الوقت يقول للحكومة المصرية آنذاك وهي تضع في السجون ووراء القضبان الدعاة وشباب الإخوان في تلك المرحلة بعدما تم إعدام «عبد القادر عودة» ومن معه من الإخوان في مصر ولعل التاريخ يعيد نفسه فيما نراه اليوم يجري في كثير من الأرض الإسلامية.
إن تلك المرحلة والظروف المحيطة بها حاولت الحكومة المصرية أن تستعين بالعقاد وتحقق التوازن المفقود باعتقال جيل متميز من الدعاة ومطاردة الباقي، وطلبت منه أن يضع كتاب «حقائق الإسلام وأباطيل خصومه» وقدم له السادات باعتباره السكرتير العام للمؤتمر الإسلامي.
الإسلام الحق
لقد صحت تنبؤات العقاد، واندفع الإسلام بالفهم الشامل الذي يرونه لن تقسيم الأحوال في المجتمعات الإسلامية هذا الفهم الذي اشرنا إليه.
وعلى لسان المستشرق الانجليزي جيب الذي يحدد معنى الإسلام ويحد جغرافية العام الإسلامي فيما يلي:
«الحق أن الإسلام ليس مجرد نظام من العقائد والعبادات، إنه أعظم من ذلك كثيرا، هو مدنية كاملة، ولو بحثنا عن لفظ مقابل له لقلنا العالم المسيحي ولم نقل المسيحية ولقلنا الصين بدل أن نقول ديانة كونفو شيوس، يشمل الإسلام مزيجا كاملا من الثقافات التي نمت حول الأصل الديني أو ارتبطت به في معظم الأحوال مع تعديل قليل أو كثير فهو مزيج ذو خصائص يتميز بها في تكوينه السياسي والاجتماعي والاقتصادي وفي تصوره للقانون وفي نظرته الخلقية ونزعاته العقلية وأساليبه في الفكر والعمل، وهو بعد يضم عددا عظيما من الشعوب المختلفة في الجنس واللغة والخلق والاستعدادات الموروثة، غير أنها على اختلافها مرتبطة لابو شيجة العقيدة المشتركة فحسب، ولكنها ترتبط ارتباطا أشد قوة بتشاركها في ثقافة واحدة وخضوعها لشريعة واحدة واتخاذها تقاليد واحدة.
التوزيع الجغرافي
وأعجب من هذا، التوزيع الجغرافي الشاسع للشعوب الإسلامية فهي تمتد بلا انقطاع من الساحل الأطلسي في غرب افريقية إلى السودان وتسير مع السواحل الجنوبية للبحر الأبيض المتوسط إلى مصر وآسيا الغربية ومن هناك تمتد مع سواحل البحر الأسود وبحر الخزر في قلب سيبيريا وتسير شرقا في منغوليا، وتمتد مع ساحل افريقية الشرقي إلى خط عرض مدغشقر وتخترق سلاسل جبال الأفغان إلى سهول الهند، وهنا ينقطع امتداد الكتلة لأول مرة ولكن بعد أن تتفرع منها جماعات كبيرة منثورة في البنغال وغيرها من أقاليم الهند تبدأ سلسلة جديدة في شبه جزيرة الملايو وتمتد متصلة في مجموع جزر الهند الشرقية حتى تنتهي في جزر الفلبين الجنوبية، وتوجد فيما عدا هذه المساحات جماعات صغرى منعزلة على حدود الصين الغربية وفي جنوب افريقية، وإذا نظرنا إلى العالم الإسلامي على المصور ألفيناه يشبه هلالين عظيمين يخرج قرنا كل منهما من مركز مشترك في آسيا الغربية ويكون الشمالي منهما نطاقا يربو عرضه على ألف ميل ويحيط بأوروبا من أقصاها إلى أقصاها تقريبا ويفصلها جغرافيا عن البلاد الغاصة بالسكان في جنوب آسيا وشرقيها، ويحيط الذراعان الدقيقان من الهلال الجنوبي بالمحيط الهندي إلا في بعض أجزاء الهند وسيلان حيث ينقطع امتدادهما». (ص:10-11 وجهة الإسلام جيب وآخرون).
ولنا عودة