بقلم د. طارق جبل
لم تعرف الديمقراطية في تاريخ المغرب عرسا يضاهي ذلك الذي عرفته بعد الإعلان عن نتيجة الاستفتاء حول الدستور الجديد. كان تصويت الأغلبية الساحقة بقبول التعديلات الدستورية نتيجة لا غبار عليها، فرقت جموع الكلاب الضالة وأعادت جرذان الأقلية إلى جحورها. إنها طريقة العارفين المتميزة. الحالة الخاصة. الاستثناء المغربي. طاجين الديمقراطية ودولة الحق والقانون بصلصة مغربية.
بعد هذا العرس البهيج وسط مآتم الثورات العربية وهذه الآية الديمقراطية الكريمة في سماء ديكتاتوريات المنطقة، مازال بعض الملحدين الجاحدين واليساريين المتطرفين والإسلاميين المتفرقعين والخونة المندسين ينكرون نعمة الدولة على المواطنين. يريدون غرس الشك في نفوس العباد وزرع الفتنة في ربوع البلاد. لكن لحسن حظ الوطن وسوء طالعهم، ظهر الحق وزهق الباطل، عندما زمر لحكمة النظام الملكي حفدة الثورة الفرنسية والمنقلبون على قداسة ملوكهم الدينية والدنيوية، كما طبل لاستمرار الاستبداد والعبودية ورثة أبراهام لينكون الداعون للحياة والحرية والسعي لتحقيق السعادة، حقوقا للإنسان غير قابلة للتصرف في إعلان الاستقلال الأمريكي، قابلة للصرف والتحويل في المغرب، ربما ردا لجميله بعد أن كان أول المعترفين بالولايات المتحدة الأمريكية بعيد تأسيسها. ولولا اعترافه هذا لما كانت قد قامت للعالم الجديد قومة، ولضاع تاريخ البشرية وتخلف حاضرها وتضرر مستقبلها.
كانت هذه الكلمات نبذة مما كتبته بعد رجة دماغية أصابتني بها نتيجة الاستفتاء بأرقامها الغينيسية، اضطرتني إلى التوقف عن الكتابة والقراءة لفترة يتعذر علي تحديدها... قبل أن يعود إلي رشدي، فأعود إلى حماقتي المعهودة وسوء فهمي السابق، وأغير أقوالي في محاضر الزلزال المغربي الذي هز صفيحة التكتونية الديمقراطية...
في مواجهة كل الادعاءات والكلام الفارغ، ورغم بروباغندا التطبيل والتزمير، كانت مقاطعة الاستفتاء هي الرد الأخلاقي الوحيد على تعديلات دستورية افتعلها المشرع ليحتمي بها من احتجاجات الشارع ومطالبته بإصلاحات جذرية تبدأ بمحاربة الفساد ومحاسبة المفسدين. لكن عوض البدء من درجة الصفر ومستوى البحر في الإصلاح السياسي، بتفعيل القوانين الموجودة لوضع حد للانحراف السياسي والمالي على اختلاف أشكاله وبكل مستوياته، أخرج المشرع من كمه دستورا جديدا استجاب لمطالب كل من هب ودب ومن رغب ومن لم يرغب في دسترة الحليب والقهوة والزيت والسكر والشمس والقمر...لم تكن حيل الساحر في الإلهاء وتقنياته في تشتيت الانتباه في مستوى هوديني، بقدر ماكان الجمهور متواطئا، حماسته مفتعلة، قناعته مأجورة وضميره في كوما عميقة قد يستفيق منها وقد لا يستفيق. أما الإمبرياليون القدامى والجدد، فلا يشك عاقل أو معتوه في تضارب مصالحهم عندما يدعون أنهم لا يتمنون إلا خلاص المستعمرات من قيود التبعية والاستغلال.
ضاع الوقت وأريق المداد واللعاب بين (نعم) و (لا) و (لا أدري) في الرد على سؤال لم يكن مطروحا إلا على لسان من يريد أن يستحمر وعي الجماهير الشعبية ويلتف على مطالبها الطبيعية والمشروعة. هتفت الجماهير في بداية الاحتجاجات بإسقاط الفساد. لم تدع لا لإسقاط النظام ولا لإقامة ملكية برلمانية أو مريخية. كان هذا قبل أن يتطور حوار الطرشان بين شعب يتكلم اللغة العربآمازيغية الفرنسية الجديدة وحكومة لا تجيد إلا قواعد اللغة الكريبتونية، إلى بكاء هستيري يقول الشعب أنها عبرات مأساة، وتأولها الحكومة على أنها دموع فودفيل.
بعد رحيل سيرك الاستفتاء، طلبت الحكومة من المواطنين بأن يتقدموا بمقترحاتهم الإصلاحية، كما لو كان مشرط الترقيعات الدستورية قد مر على أدمغة المحتجين ينحت فصوصها وعلى وجوه المفسدين يجمل ملامحهم في عيون الشعب الذي قال نعم لفقدان الذاكرة ولرد خارج عن موضوع الاحتجاجات.
يمنون أنفسهم بخطب الإيجابية والإيحاء الذاتي ليقنعوا المواطنين بحقيقة أوهام شخصية وسراب خاص يستثنون المغرب من ثورات عربية، يكبر قاسمها المشترك يوما بعد يوم بتعاظم استبداد الحاكمين و تفاقم قهر المحكومين. يرهبون المواطنين بما آلت إليه مصر وتونس بعد الثورة، ويتناسون أن هاته الشعوب لم تتخلص بعد من مكائد الثورة المضادة وتبعات الأنظمة السابقة بما خلفته من مشاكل سياسية واقتصادية واجتماعية كانت أول من سعى إلى تراكمها وتفاقمها، حرصا منها على ترويض إرادة الشعب لاحتكار السلطة والسطو على ثروات البلاد. يلفتون نظر المواطنين إلى اختلاف مشارب المحتجين وتعارض مذاهبهم، ويفوتهم أنهم على تفرقهم مجتمعون على ضرورة محاربة الفساد ومحاسبة المفسدين...كلام كثير لا تريد الحكومة أن تسمعه، وبديهيات لا حصر لها ترفض أن تراها، ومسلمات متراكمة تتعارض مع منطقها الذي لا يعتد إلا بهندسة المصالح وجبر العمالات.
يبدو أن الأنظمة العربية استفادت -بمنطقها الخاص- من دروس الثورة في تونس ومصر واليمن وليبيا وسورية، وأنها ما فتئت تراهن على حالة البلاد الاستثنائية بقدرتها على تطويع النخب وتهميش القاعدة، وأملها في جني ثمار سياسة عقود من القمع والاستبداد. تراهن الأنظمة بكلما تملك على تخلف الشعوب وتواطئ عملاء الداخل والخارج، بينما تراهن الشعوب بحياتها على كسر حاجز الخوف وعلى...حياتها. ويظل احتمال خسارة الشعوب أكثر من وارد، إذا لم تتوار عن الأنظار ولم تتخلف في الصفوف أيقونات أقليات صاخبة تستفز أغلبية صامتة لم تقرر بعد مصيرها، لأن جدار الخوف منيع وثمن الحرية نفيس.
آن الأوان لكي تضحي هذه الأيقونات بعجرفتها أمام الكاميرات وخلف الميكروفونات، لأن تفاهة الجهر بالإفطار في رمضان وغيرها من الأجندات الواعدة ليست بمستعجلة ومن الممكن تأجيلها (وتحمل عواقبها في دولة تدين بالإسلام وتحتكم إلى تطبيق الحق والقانون)، ولأن سعر الحرية لا يقبل العقل مقارنته بتعريفة الحريرة والشباكية؛ لا في رمضان ولا في شعبان.