يوسف الحزيمري
إنها رسالة كنت كتبتها لصديق عزيز عليّ، جمعتنا سويّا مقاعد الدراسة الثانوية والجامعية، وبعد حصولنا على الإجازة من شعبة الدراسات الإسلامية من كلية الآداب والعلوم الإنسانية بتطوان، تفرقت بنا السبل، فعاد هو إلى قريته بـ"باب برد"، وخضت أنا غمار الحياة ومتابعة الدراسة إلى أن حصلت على الدكتوراه، ولا زال الاتصال بيننا قائما، لكنّه إلى الساعة لم يحصل على وظيفة تسد حاجته كأي مجاز معطّل، أقول معطّل وليس عاطل، لأن المعطّل عطالته من خارج ذاته قسرا، أما العاطل فهو الذي اختار العطالة لنفسه.
إنه صديقي "شعيب خرشيش" والرسالة بعنوان: "شعيب: نسمة باردة ولهيب حارق" كتبت بتاريخ: 25/09/1999م بتطوان العامرة، وإليكم نصها:
من منكم يعرفه؟ من منكم جلس معه واستمع إلى كلامه؟ ومن منكم أيضا أتاح لنفسه فرصة معانقة أفكاره والغوص معها في بحر ضحل؟ ومن استطاع أن يكوِّن فكرة عن نظرته إلى الحياة والواقع، وتفسيره لمعنى الصداقة الحقيقية، وعن معنى المحبة والوفاء؟؛ لو أنكم تنازلتم وفهمتم تصوراته لحكمتم أنه نسمة ولهيب.
شعيب الشخصية: حاضرة ومتميزة، واقعية ومؤثرة، لا تنتظر من الكاتب أن يمنحها حق الولوج إلى روايته، بل تقحم نفسها بمهارة، وتهيئ لتحركاتها فضاءً خاصا بها، غير الذي يجهد الكاتب في توظيفه، شخصية تربك الكاتب فترغمه على إخلاء الجو لها لتتصرف كما تحب، وتربط علاقات سريعة مع الشخصيات المحورية بإعتبارها المتأثرة.
شعيب السِّر: سر دفين، ما بيدك حيلة للتعرف عليه، وإن دخلت باب المغامرة لتزيل القناع عنه، وعن تلك التساؤلات الكثيرة التي وإن ظهرت إجابتها فلن تفهم شيء، ما دام صاحب السر نسيه ودونه في الذاكرة، على أن يفشيه في الوقت المناسب والمكان الأنسب.
شعيب الصديق: يعطي إن رأى فيك الرغبة في التقبل، ويمنع إن أحس – وهو إنسان حساس لدرجة مفرطة- بأنك غير جدير بالمعاشرة، فيصارحك برأيه اتجاهك دون أن يخاف من جرح أحاسيسك، لكي تتعلم منه أن الصداقة في قاموسه تقابلها الصراحة، وبأن الصداقة أيضا شهادة حق، وتسليم ضمير يقظ إلى آخر مثله.
شعيب الرؤية: يرى أنه لم يعد هناك إنسان جدير بالثقة والمعاشرة في الوسط المحيط به، إلا من يملك عقلية أصابتها الشيخوخة في فترة الشباب مثله على حدِّ قوله.
يرى أن مصاحبة الفتيات اللواتي يتتبعن الموضة، ويظهرن لك بمظهر المعاصرات هو مضيعة للوقت، وهبوط بالعقل من مستوى رجل واعي إلى آخر لصبيٍّ لا يعي ما يدور حوله.
شعيب الجَمُوح: لا يتمالك نفسه عند الغضب، يتصرف دون وعي إذا رأى منظرا يستفزه عن قرب أو بعد، يصل به غضبه إلى درجة الشّجار دون أن يهتم بأحد، لأنه لا يسرق كما يقول.
يصب جام غضبه على نفسه، ويلعن الشيطان، ثم يرتاح تدريجيا، حينها فقط أستطيع أن أتابع معه الكلام كأن شيئا لم يحدث.
شعيب التجربة: تجربة ثمان سنوات وأكثر، خرجت منها بخلاصة أن الحياة عراك، والمجتمع لا يرحم أحدا، وبأن الأصدقاء في الشدّة يندثرون، وفي ساعة الرخاء يولدون من جديد، وبأن شعيب وأيامه لن يطالها النسيان، ولن تخونني الذاكرة يوما، إن لم يصبها الهرم من استرجاع ذكرياتي معه." انتهت الرسالة.
شعيب الآن معطّل عن العمل لكنه يتابع حياته بشكل عادي في قريته من قرى باب برد، يزورنا بين الفينة والأخرى نسترجع ما مضى، ونأمل فيما يستقبل، لم ينخرط في تنسيقيات المعطلين، كان لي معه حوار مؤخرا حول وظيفة جديدة له، لكن قدر الله و ما شاء فعل، أتمنى الآن من أعماق قلبي أن تجمعنا الأيام ثانية كي تقر عيني بكلامه البدوي الثقيل المعاني؛
صديقي شعيب إذا قرأت ثانية هذه الرسالة فلا تحرمنا من زيارة قريبة، نرى فيها وجهك البشوش، ونستمع إلى كلامك المنفوش، وكل عيد عمال وأنت غير معطّل.