عبد الرحمان سعيدي
أصبح دعاة الحريات يتجاهرون ولا يستترون ويتعالنون ولا يستخفون، فقديما كانوا ينتفضون على القيم والدين انتفاضة المتمرد المرعوب، فكانت أصواتهم لا تصل إلى الأسماع، و كلماتهم لا تلفت الأنظار ولا تلهم القلوب ولا تستميل الألباب، فأجمعوا أمرهم وأعلنوا سرهم وصدعوا بحملهم الرغيب، فقد غذوا يتبجحون بها على الناس ويتمجحون، وهم يظنون أنه قد آن الأوان لهتك المستور وكشف المحظور، فتمادوا في تبجحهم حتى تطاولوا على المجتمع عليه في العقيدة والدين، من المقدس الموروث، فجعلوه منبوذا ومنسوخا بالإعلان العالمي لحقوق الإنسان، كأنه وحي متلو، وكأن الذي جاء به نبي مرسل.
مفهوم الحرية في الميثاق العالمي لحقوق الإنسان:
وحق لهم أن يتبجحوا، تبجح من يهتدي إلى مبتغاه بعد ضلال، ويرتوي بعد ظمأ، فهذا الإعلان، الحامي لحقوق كل إنسان، قد نص صراحة بما لا لبس فيه وبما لا يدع مجالا للشك بصيانة حرية كل إنسان، فمادته الثالثة تقول:
" لكل فرد الحق في الحياة والحرية وسلامة شخصه"
فهذا نص صريح يلزم الدول الأعضاء، التي قد تعهدت بالتعاون مع الأمم المتحدة على ضمان اطراد مراعاة حقوق الإنسان والحريات الأساسية واحترامها، بضمان حريات الأفراد وصيانتها، وفق ما جاء في ديباجة الإعلان العالمي لحقوق الإنسان.
لكن هذا التبجح، بهذه الضالة المنشودة، قد أغواهم حتى أذهلهم عن أن يلمحوا ما في آخر هذا الإعلان من الإرشاد، الذي يبين المراد بما جاء في جميع بنود هذا الإعلان، وما كان لهم أن يذهلوا، خاصة وأن المادة الثانية منه قد نصت على ما يلي :
" لكل إنسان حق التمتع بكافة الحقوق والحريات الواردة في هذا الإعلان"
فيشير هذا النص بعبارة – الواردة في هذا الإعلان - إلى أن بنود هذا الإعلان تشكل وحدة متكاملة، لا يجب فصل بعضها عن بعض، بل يجب أن يفسر بعضها بعضا ويقيد بعضها بعضا.
فما هي يا ترى المادة المقيدة لمطلق الحرية الواردة في المادة الثالثة، والتي هي غاية كل متبجح؟ وما هي القيود المقيدة لها؟
إن القيود المقيدة لمطلق تلك الحرية لنلمحها بجلاء في المادة قبل الأخيرة، والتي تتطرق للواجبات التي تجب على الأفراد اتجاه مجتمعاتهم عند ممارستهم لحقوقهم وحرياتهم، حيث تلزم هذه المادة في فقرتها الثانية أن تكون هذه الحقوق والحريات مما يكفله القانون الجاري ويحميه، دون إخلال بحقوق وحريات الآخرين، بل مع احترامها وتقديرها، ومع مراعاة للنظام العام والمصلحة العامة للبلد، ومراعاة للأخلاق السائدة في المجتمع.
ونص المادة التاسعة والعشرون هذه هو:
(1) على كل فرد واجبات نحو المجتمع الذي يتاح فيه وحده لشخصيته أن تنمو نمواً حراُ كاملاً.
(2) يخضع الفرد في ممارسة حقوقه وحرياته لتلك القيود التي يقررها القانون فقط، لضمان الاعتراف بحقوق الغير وحرياته واحترامها، ولتحقيق المقتضيات العادلة للنظام العام والمصلحة العامة والأخلاق في مجتمع ديمقراطي...... " انتهى.
مفهوم الحرية في ظل الدستور المغربي الجديد:
كما أن الحرية في الدستور المغربي الجديد لسنة2011 مقيدة بأن لا تخل بمقتضيات النظام العام أو الأخلاق والآداب العامة التي تسود في المجتمع والمستمدة من القيم الإسلامية، سواء في الحياة السياسية أو الاقتصادية أو الاجتماعية، وهذا ما عبر عنه الدستور صراحة في الفقرة الثالثة من الفصل الأول في الباب الأول منه، ونصه:
«تستند الأمة في حياتها العامة على ثوابت جامعة، تتمثل في الدين الإسلامي السمح، والوحدة الوطنية متعددة الروافد، والملكية الدستورية، والاختيار الديمقراطي.«
فالتنصيص على استناد الأمة في حياتها العامة على الدين الإسلامي السمح باعتباره من الثوابت الجامعة للأمة، مع جعله في صدارة هذه الثوابت، دليل صريح وبرهان قوي على أن أسس وقواعد النظام العام السائد والجامع لكل المغاربة مستمدة من القيم والآداب والأخلاق الإسلامية، التي هي روح الدين الإسلامي، كما يستفاد من عبارة:«في حياتها العامة».
وقد أكد الدستور في الفصل التاسع عشر في الباب الثاني، المصدر بعنوان:« الحريات والحقوق الأساسية» بأن جميع الحقوق والحريات التي يتمتع بها الأفراد يجب أن تنسجم كلها مع أحكام الدستور وثوابت المملكة وقوانينها، سواء تلك التي يخولها الدستور، أو تلك التي تدخل في إطار المواثيق الدولية التي صادق عليها المغرب ، ونص هذا الفصل:
« يتمتع الرجل والمرأة، على قدم المساواة، بالحقوق والحريات المدنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والبيئية، الواردة في هذا الباب من الدستور، وفي مقتضياته الأخرى، وكذا في الاتفاقيات والمواثيق الدولية، كما صادق عليها المغرب، وكل ذلك في نطاق أحكام الدستور وثوابت المملكة وقوانينها. . . .».
ولا يغني دعاة الحريات الماجنة والأخلاق الفاسدة والعقائد الضالة ما جاء في الفصل الثالث من الباب الأول من الدستور، والذي نصه:
«الإسلام دين الدولة، والدولة تضمن لكل واحد حرية ممارسة شؤونه الدينية.«
حيث لا يجب أن يفهم من هذا الفصل أنه يحق لأي واحد من المسلمين أن يتبرأ من العقيدة الإسلامية ويدعي اعتناقه لدين آخر أو يدعي الإلحاد، قصد التنصل من أحكام الإسلام وانتهاك حدوده والمجاهرة بمخالفة قيمة وآدابه والإخلال بالنظام العام بذريعة كونه غير مسلم وتحت شعار ممارسته لحقوقه وحريته في الاعتقاد، فقد جاء في فتوى المجلس الأعلى للعلماء بشأن الردة، ما يفسر هذا الفصل ويبينه، ونص هذه الفتوى:
"أما بالنسبة للمسلمين: في شأن حرية المعتقد والدين، فإن شرع الإسلام ينظر إليها بنظر آخر، ويدعو المسلم إلى الحفاظ على معتقَده وتدينه، وإلى التمسك بدين الإسلام وشرعه الرباني الحكيم، ويعتبر كونه مسلما بالأصالة من حيث انتسابه إلى والدين مسلمين أو أب مسلم التزاما تعاقديا واجتماعيا مع الأمة، فلا يسمح له شرع الإسلام بعد ذلك بالخروج عن دينه وتعاقده الاجتماعي، ولا يقبله منه بحال، ويعتبر خروجه منه ارتدادا عن الإسلام وكفرا به، تترتب عليه أحكام شرعية خاصة، ويقتضي دعوته للرجوع إلى دينه والثبات عليه، وإلا حبط عمله الصالح، وخسر الدنيا والآخرة، ووجب إقامة الحد عليه".
فهذه الفتوى بمثابة قرار ملزم صادر من هيئة مخولة بإصدار الفتاوى والآراء الدينية في المسائل التي ترفع إليها، بموجب الدستور، الذي أناط بها مراقبة الهوية الإسلامية للقوانين والأفعال، وهي بهذا المعنى هيئة دستورية نوعا ما، فقد جاء في الفصل الحادي والأربعين في الباب الثالث:
« الملك، أمير المؤمنين وحامي حمى الملة والدين، والضامن لحرية ممارسة الشؤون الدينية.
يرأس الملك، أمير المؤمنين، المجلس العلمي الأعلى، الذي يتولى دراسة القضايا التي يعرضها عليه.
ويعتبر المجلس الجهة الوحيدة المؤهلة لإصدار الفتاوى التي تعتمد رسميا، في شأن المسائل المحالة إليه، استنادا إلى مبادئ وأحكام الدين الإسلامي الحنيف، ومقاصده السمحة.
. . . . »
فبنص هذا الفصل وبمقتضى الفتوى السابقة يجب أن يفهم من الشق الثاني من الفصل الثالث من الباب الأول من الدستور، وهو:
« والدولة تضمن لكل واحد حرية ممارسة شؤونه الدينية »،
أن حرية ممارسة الشؤون الدينية إنما هي في حق الأقليات الدينية العريقة، من اليهود والمسيحيين، الذين متعوا بهذه الحرية تحت حماية الدولة، أما المسلمين فوضعهم خاص، وفق ما جاء في حيثيات الفتوى، ووفق المعهود عند المسلمين جميعا، والذي هو من المعلوم من الدين بالضرورة منذ قرون عدة.
كما يفهم من هذا الفصل بالأولى، أن الدولة هي حامية الدين الإسلامي من كل الانتهاكات التي تخل بعقيدته وأحكامه، وأن الدولة كذلك هي الضامن لحرية أداء المغاربة المسلمين لشعائرهم الدينية على أحسن حال.
خلاصة الكلام:
إن الحرية التي يكفلها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان مقيدة بنفس الإعلان، بمراعاة النظام العام للبلد ومصلحة المجتمع العامة والأخلاق، أي القيم السائدة فيه، وهي عندنا القيم الإسلامية.
كما أن الدستور المغربي الجديد يقيد الحرية بأن لا تخل بالثوابت الجامعة للأمة والتي تستند إليها في حياتها العامة، سياسيا واقتصاديا واجتماعيا، والتي تتصدرها القيم الإسلامية الفاضلة، المنبثقة من العقيدة الإسلامية.
فلا حرية للمجاهرة بالفاحشة.
ولا حرية في المطالبة برعاية (الدعارة) باعتبارها مصدرا مهما يساهم في تنمية الاقتصاد الوطني.
ولا حرية في المطالبة بالزواج المثلي.
ولا حرية في المطالبة بتقنين المتاجرة في المخدرات والمسكرات.
ولا حرية في الإفطار العلني في رمضان.
فلا حرية في انتهاك حدود الإسلام تحت أي ذريعة كانت، لأن ذلك يعتبر انتهاكا لحرمة المسلمين الذين هم كل المغاربة، وفي ذلك أذية لهم وإخلال بنظامهم العام ومصلحتهم العامة وقيمهم.
وكل من ينادي بالحريات السابقة فهو مخالف للدستور وللقانون، ومخل بالنظام العام وبالمصلحة العليا للوطن، يسري عليه ما يسري على كل مخالف لمقتضيات القانون.
والله سبحانه المستعان، وهو ولي التوفيق.