نبيل غزال
شكلت المفاوضات التي تمت بين سلطة الاحتلال الفرنسي وممثلي الأحزاب الوطنية المغربية والقوى الحية والطائفة اليهودية بمدينة «إكس ليبان» بفرنسا في 22 من غشت 1955م حدثا بارزا في التاريخ السياسي المغربي، حيث تم خلالها ولأول مرة المطالبة العلنية باللادينية في العمل السياسي المغربي.
وأعلن عبد القادر بنجلون رئيس وفد حزب الشورى والاستقلال والناطق الرسمي باسمه لوكالات الأنباء أن الحزب الذي يمثله حزب لاديني علماني، وبالنظر إلى خطورة هذا المعطى الجديد والدخيل في الوقت نفسه على مبادئ حزب الشورى والاستقلال آنذاك، فإننا نحتاج إلى شخص من أهل الدار، ومن داخل الحزب، ولم لا من مكتبه السياسي أيضا، ليخبرنا كيف تم بين عشية وضحاها الإعلان عن تبني النظام السياسي لدولة الاحتلال مقابل التنكر للنظام الإسلامي الشرعي للبلد، الذي قاتل المجاهدون والفدائيون من أجل استرجاعه واستعادته.
وقد وجدنا ضالتنا عند الدكتور إدريس الكتاني العضو السابق بالمكتب السياسي لحزب الشورى والاستقلال؛ الذي وثق في كتابه «المغرب المسلم ضد اللادينية» الصادر في محرم 1378هـ/1958م بعض تفاصيل ما وقع في مفاوضات «إكس ليبان»؛ وأخبرنا عن تفاصيل مهمة حدثت خلال المفاوضات من مثل حضور الوفد الصهيوني من أمريكا على وجه السرعة؛ ومطالبة الناطق الرسمي باسم حزب الشورى والاستقلال بتبني العلمانية.
قال د. إدريس الكتاني: «امتلأت مدينة إكس ليبان الفرنسية بوفود ممثلي الأحزاب الوطنية والعلماء والمخزن (حكومة المغرب الصورية) والإقطاعيين والخونة والطائفة اليهودية، كما حضرت وفود فرنسية مختلفة من المغرب إلى جانب الخبراء والفنيين والمساعدين الفرنسيين الذين كانوا يقومون بالاتصالات الشخصية مع أعضاء الوفود، لتمهيد الجو واستكمال المعلومات التي كان الوزراء الفرنسيون في حاجة إليها.
ولم يكن من الغريب أن تمتلئ «إكس ليبان» بالصحفيين ومندوبي وكالات الأخبار لمتابعة الأحداث، ولكن الذي أدهشني -وقد حضرت المؤتمر كملاحظ لوجودي بلوزان وقتئذ- أن يطير من أمريكا إلى إكس ليبان وفد عن (الوكالة اليهودية) ليتابع أشغال المؤتمر في عين المكان ويشارك بدوره في حل المشكلة المغربية».
ولم يكد ينتهي المؤتمر حتى بدأ السيد عبد القادر بن جلون رئيس وفد حزب الشورى والاستقلال بالمؤتمر والناطق باسمه -وكان يتألف من ثلاثة أعضاء آخرين من المكتب السياسي للحزب هم السادة محمد الشرقاوي وعبد الهادي بوطالب وأحمد بن سودة- بدأ يعطي تصريحات وأحاديث لمراسلي الصحف، كان يهتم فيها على الخصوص بالتنصيص على نقطتين رئيسيتين في نظره:
الأولى: أن الشورى والاستقلال حزب لاديني (لائكي) ولذلك فهو ديمقراطي تقدمي عصري.
والثانية: أن اليهود المغاربة يجب أن يشاركوا في إدارة الدولة المغربية وفي الحكومة الوطنية المقبلة التي ستنبثق عن حل المشكلة المغربية.
وكانت في طليعة الصحف التي نشرت هذه الأحاديث «الأبسيرفاتور» البريطانية و«فرانس أبسيرفاتور» الفرنسية.
وقد أشار الدكتور إدريس الكتاني إلى أن: «مبادئ الحزب كانت كلما طبعت أو نشرت أو ذكرت في الخطب والمحاضرات منذ تأسيس الحركة القومية سنة 1937 حتى تاريخ انعقاد مؤتمر «إكس ليبان» 1955 تتضمن مبدأين أساسيين هما «الإسلام» و«العروبة»، ولكن تصريحات السيد عبد القادر بن جلون التي أدلى بها للصحف في باريس و«إيكس ليبان» مؤكدا فيها أن حزب الشورى والاستقلال (حزب لاديني) كانت تعني عنده وجوب التشطيب على المبدأين السابقين».
انتهت محادثات «إكس ليبان» ليستأنف فيما بعد ذلك بباريس بين الحكومة الفرنسية وممثلي حزب الاستقلال وحزب الشورى والاستقلال وبعض المستقلين، وانتقل إلى باريس أيضا وفد «الوكالة اليهودية الصهيونية» ليتابع هو الآخر تطور المفاوضات عن كتب، وليتأكد من نجاح «مساعيه الحميدة» في حل المشكلة المغربية.
ثم قال الدكتور الكتاني في الكتاب نفسه: «..وفي أوائل نونبر 1955م كنا في باريس بمناسبة استقبال جلالة الملك محمد الخامس يوم عودته من مدغشقر، عندما دعونا للغذاء معنا بالفندق الكبير وفد العلماء الشوريين السادة حماد العراقي، وشقيقه الشهيد عبد الواحد العراقي، وعبد الله الداودي، وعبد القادر بن شقرون، ومحمد الزيزي، وادريس السميرس، وكان معنا على المائدة السيد عبد القادر بن جلون الذي انتهز هذه الفرصة فأخذ يعدد محاسن النظام اللائكي ويقول: «إن أول دستور للدولة المغربية الديمقراطية المستقلة يجب أن ينص على أن الدولة لائكية»، فعارضته بشدة مستدلا بأن الشعب المغربي شعب مسلم فخور بالإسلام، ولذلك سوف يرفض مبدأ فصل الدين عن الدولة؛ ولن يؤيد الحزب الذي يريد سلوك هذه السياسة أو فرضها بالقوة كما حدث في تركيا وإن من الخير لنا أن نبتعد عنها، وكان يؤيدني في هذه الآراء جميع العلماء المذكورين.
... كنا نجتاز في المغرب وقتئذ انقلابا تاريخيا في حياتنا، ما في ذلك شك، وكنا نعيش بداية ثورة، ولقد كنت من عشاق الثورات، ثورات الشعوب على الاستعمار، وعلى الإقطاعية والرجعية، وعلى الفساد والفوضى، وعلى الاستغلال والاستعباد، وعلى الضعف والتخاذل والتفرقة، كنت ثائرا على هذه العناصر الهدامة ولا أزال، ولكن لم يخطر في بالي قط أن أثور على نفس المبادئ التي عشت عليها منذ عشرين عاما داخل الحزب والتي هي جزء أصيل من كيان الشعب المغربي، بل هي المادة الخام التي صيغ منها هذا الشعب منذ أكثر من اثني عشر قرنا».
عقب هذا التحول الخطير داخل حزب الشورى والاستقلال اختار الدكتور إدريس الكتاني الاستقالة من الحزب وكتب «المغرب المسلم ضد اللادينية» الذي يعتبر رسالة استقالة ووثيقة تاريخية مهمة تؤرخ للمرحلة؛ وحري بكل من يسعى إلى فهم التحول الكبير الذي طرأ على مجتمعنا سواء على المستوى السياسي أو الاجتماعي أو السلوكي الاطلاع عليها والوقوف على ما ورد فيها من أخبار وحقائق.