أقدار فم بلا عار

أقدار فم بلا عار
أقدار فم بلا عار

بدر الدين الإدريسي

 

يحدث أن تصدمني فاجعة رحيل مفاجئ فيعظم الحزن بداخلي حتى أخاله أنهارا حارقة تنقبض لها النفس وتحترق بلظاها.

برغم ما أعطانا الله من طاقة للصبر على تحمل الفواجع، إلا أن سماعي لخبر موت جواد أقدار لم يصدمني فقط، بل شل كل قدرة على أن أكتب نعيا أو رثاء في حينه، فالراحل جواد أقدار الذي أخذ في زمننا الكروي مساحات كبيرة بإبداعه، بصدقه وبإنسانيته الإستثنائية يستحق أن نضع على نعش رحيله كلمات تختزل ما كان من وشائج حب ومودة وتقدير بعد أن نترحم على روحه الطاهرة، فقد شاءت إرادة الله أن يغيب عن العيون إلى الأبد وهو في ربيع العمر.

كنت بحاجة إلى أيام لأتحرر تدريجيا من صدمة الصّد عن تسجيل إعترافات بخط اليد، وخلالها نقلت السمع بين عديد من الشهادات المؤثرة والتي لم أشكك في ذرة واحدة من صدقيتها، فما قيل عن أقدار أقل بكثير مما يستحق، وما كتب عنه من مرثيات لم تذكر حتى بعشر ما كان عليه هذا الجواد المعطاء من أصالة ومن إستعداد تلقائي للتضحية من أجل إسعاد الآخرين.

هاتفت الإطار مصطفى مديح تحديدا لأسمع منه ما لا يحكى كله، واخترت مديح تحديدا لأنه هو الآخر صادق بالسليقة، ولأنه عاش معه أكثر بكثير مما عاشه معه مدرب آخر، وكان مؤثرا أن تصلني كلمات مديح التي تروي سيرة علاقة إنسانية ووجدانية عميقة متقطعة، لأن كم الحزن والصدق فيها كبير جدا.

مديح عرف جواد أقدار ناشئا وعرفه ناضجا وعرفه رجلا متحملا لمسؤلياته الرياضية والأخلاقية وأبدا لم يكن صدفة أن يكون الراحل جواد أقدار قد دخل تقريبا تحت كل الخيمات التي كان ينصبها مديح بخريبكة مع الأولمبيك، ثم بالرباط مع الجيش وبأكادير مع الحسنية، دون أن ننسى أنه هو الذي قلده وشاح الدولية بأعلى رتبها عندما ضمه للمنتخب الأولمبي، بعد أن كان قد لعب قبل ذلك لمنتخبي الفتيان والشبان.

كان جواد أقدار يعرف فضل مديح عليه فما تبرم ولا تأفف ولا رمى نارًا في أي زيت، كان العرفان الذي يقدمه جواد لمديح أنه كان يخلص له، يصادقه، لا يتأخر عنه، بل وعندما يشعر بأنه يحرجه، يذهب إليه ليصارحه.

بعد مباراة الحسنية والرجاء عن إقصائيات كأس العرش والتي شهدت إقصاء الحسنية، لاحظ مديح أن أقدار يعيش بداخله مخاضا عسيرا، شعر بأنه يحمل جبلا وأراد أن يحرره، فمهد له للكلام، فقال له أقدار:  «أعرف أنك جئت بي إلى الحسنية وأعرف أنك وناس الحسنية ينتظرون مني ما لم أستطع أن أعطيه حتى الآن.. أرجوك أن تأذن لي بالرحيل، أن أعيد للناس فلوسهم، فهم لايتسحقون أبدا أن أغبنهم...».

قمة الإثارة، قمة الوعي وقمة المسؤولية أن يفكر الإنسان في الغير أكثر مما يفكر في نفسه، وأعتقد أن هذا وجه إنساني من أوجه كثيرة لجواد أقدار، هذا مختزل لكاريزميته وهذا دليل على أن جواد كان رحمة الله عليه على خلق، لم يكتب لي أن أجالس جواد أقدار إلا لمامًا، ولكنني أحتفظ له بصورة تطابق كثيرا تلك التي وضعها له مصطفى مديح وجواد الميلاني وفتحي جمال وكل اللاعبين والمسيرين الذين جايلهم أو عمل تحت إمرتهم، فقد حدث أن عاش جواد لحظة إنضمامه لأهلي طرابلس الليبي أحداثا عصيبة، تداخلت فيما بينها، وعلى النفس جثم ضيق وحزن كبير..

لا أريد أن أذكر بتفاصيل أحداث يشهد عليها أناس ما زالوا أحياء بيننا، لأن الراحل جواد أقدار نفسه كان يبث شكواه لله، لا يدعو على أحد بالعكس، كان فقط يطلب عونا لتحمل شدة من الشدائد، وأذكر أن الرجل هاتفني لأكثر من مرة ولمدد زمنية طويلة، كان يفعل ذلك على إستيحاء، ولكنني كنت أشعر بأن الأمر يساعده على التخلص من هواجس كثيرة وهو في أرض الغربة.

جواد أقدار الإنسان وجواد أقدار المبدع وجواد أقدار الموهوب، فرحم الله من كان فينا صادقا، خلوقا، متواضعا ومحبا للخير، ولعائلته الصغيرة والكبيرة ندعو بالصبر والسلوان، إنا لله وإنا إليه راجعون.

--------------------

عندما قررت أسرة فقيد كرة القدم الوطنية جواد أقدار إستلام جثة إبنها من دون تشريح لتوارى الثرى في محفل جنائزي مهيب بخريبكة، يكون سر الوفاة المفاجئة قد دفن مع الجثة، ونحن من كنا بحاجة لأن نعرف إن كان للوفاة علاقة بمشاكل كان يعيشها أقدار على مستوى القلب أو على مستوى الجهاز التنفسي، برغم أنه مع تنقلاته بين الأندية بخاصة الخليجية لما لعب بالسعودية كان يخضع للإفتحاص الطبي.

لا نستطيع أن نبني أحكاما ذات قيمة على فرضيات، فالطب من العلوم الحقة التي تقوم على المعاينة الدقيقة، ولكن تستطيع وفاة جواد أقدار بالطريقة التي رويت من عزالدين حيسا الذي عاين الحادث أن تكون مادة لنقاش علمي يساعد على إماطة اللثام عن منطقة ما زالت مظلمة في مشهدنا الرياضي، المراقبة الطبية المتواثرة للرياضيين، فليس هناك من يقبل أن تضيع منا ثروات رياضية بسبب لا مبالاة طبية.



المصدر : المنتخب


عدد التعليقات (1 تعليق)

1

محمد الظريف

كلام صادق وعبارات شافية وكافية في حق لاعب كبير

أشكرك سيدي على ما جاء في هذاه المقالة من كلام صادق وعبارات شافية وكافية في حق لاعب كبير ليس بأدائه الرائع الجميل داخل رقعة الميادين الرياضية بل لتسامحه مع الآخرين ونضجه ووعيه وزهده في الماديات وإيمانه القوي بالله وبالقضاء خيره وشره وباحترام الآخرين كبر أم صغر شأنهم ،جواد اسم على مسمى فهو كريم وسخي ومعطاء بدون حدود ،كان متشبتا بالحياة ،دائم الإبتسامة ولو في الأوقات العصيبة لكن تشبته بالدين والعقيدة كان أكثر بكثير مما نتصور فقد أدى مناسك الحج و أكثر من عمرة ، كان مواظبا على أداء الصلوات وإتاء الزكاة وإخراج الصدقات والصوم في رمضان وخارج شهر رمضان ، لم يقرب خمرة ولا سيجارة ،،، جواد ولي صالح قلما يجود الزمان بأمثاله ، جواد مات ولم ينل حظوظه كافية من الدنيا ،اختاره الله إلى جانبه وهو في ريعان شبابه وعلى بعد أيام قليلة من عقد قرانه على خطيبته ، هذه الخطوبة التي دامت لسنوات ست بالتمام والكمال لم يكن مستعجلا ، ولكن يد المنون امتدت إليه قبل هذا الموعد لحكمة لا يعلمها سوى الخالق سبحانه وتعالى (...الله يعلم وأنتم لا تعلمون) لكن بيقى السؤال :ماهي أسرار هذا الغياب المبكر ؟؟؟؟ ماهي الظروف والحيثيات التي أحاطت بوفاته ؟ هل كان للضغوط القوية التي مورست عليه من طرف المدرب مدفوعا من بعض العناصرداخل المكتب المسير للحسنية دور في ذلك ؟ وهل يعلم زملاؤه بعض الأسباب والحيثيات ، لكن حتى وإن كانوا يعلمون هل يبوحون بها ولو بعد حين خوفا على مصيرهم ومستقبلهم ومصدر قوتهم ؟ وهل للمقربين من المرحوم فكرة عن الموضوع ؟؟؟ أكيد أن ما مر به المرحوم من مضايقات لدفعه إلى الرحيل عن الحسنية بمحض إرادته ؟ لقد كان يلمح لي أحيانا أنه يعيش تحت الضغط منذ مقابلة الحسنية ضد الرجاء برسم تصفيات كأس العرش ، لذا كان يعاقب بالجلوس على دكة الإحتياط طيلة أشواط مباريات البطولة الوطنية.... يطول الكلام والحديث لكن هل يعيد لنا ذلك المرحوم؟ لقد فجعنا برحيله الدرماتيكي وتأثرنا بذلك حتى جفانا النوم وبدأنا نستعين بالحبوب المهدئة ، نسأل له الله الرحمة والمغفرة كما نسأله سبحانه وتعالى أن يلهمنا الصبر والتحمل .شكرا لك أخي بدر الدين الإدريسي على هذه المقالة الرائعة التي ساهمت في إشفاء غليلنا وفي مواساتنا ومساعدتنا في ظروف أقل ما يقال عنها أنها صعبة وعصيبة جدا.

2012/11/11 - 12:10
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

*
*
*
ملحوظة
  • التعليقات المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
  • من شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات
المقالات الأكثر مشاهدة