مغرب الزمن الضائع...
هشام عابد
الإهداء: إلى كل المغاربة المشاركين في آلة التعذيب العظمى...
في المغرب.. تحس وكأنك في قاعة انتظار كبرى..! في قاعة على الهواء الطلق، الكل فيها ينتظر عودة "جودو"..!
هاهنا سيلقي هذا المقال الضوء على نزر قليل من آلة الانتظار الزمنية المقيتة وطاحونة الهدر الزمني المستمرة في بلد سلحفاتي الوثيرة في كل شيء. ويهدر الفرص والوقت، ويضيع المناسبات دون حساب... وما المانع أن يكون الانتظار هو الآخر سمة من السمات التي تكبل هذا الوطن ليضل ماكثا في مكانه لا يبارحه في دوامة قاتلة تربي فيك مرض السكري والاكتئاب المزمن، وتقتل فيك حب هذا الوطن وتقيدك بقيود لامرئية وتدخلك في عذاب طويل ومرير... حالة تكون فيها وضعية المواطن وهو يئن تحت إيقاع آفة الهدر الزمني والانتظار، كقطعة ثلج تذوب قطرة قطرة في حرارة جد منخفضة تطيل عذابات هذا المواطن وتقتله عرقا عرقا... أو كأنك بين يدي آلة محكمة القفل تعذب الشعب بشكل سادي يتلذذ فيه القلة بتعذيب الجماهير العريضة...
ومهما قلنا فيما يعانيه المغاربة من انتظارات في مختلف مواقفهم داخل الحياة المغربية سيظل ناقصا وقاصرا عن نقل حجم المعاناة التي يحيونها كل يوم وفي كل خطوة وفي كل مكان...
فما أن تستفيق في الصباح الباكر وأنت متوجه إلى عملك الاعتيادي إلا وتعرف أنك متوجه نحو رحلة عذاب؛ إذ أول ما تعانيه محنة طابور الحشود التي تجدها في مواقف الحافلات، حيث ينتظر العمال والموظفون والطلبة وغيرهم، أحدهم ينظر إلى ساعته والآخر ينفخ ضجرا وأخرى أتعبها الوقوف فافترشت الأرض... مواطنون ينتظرون في ظروف البرد والريح والشتاء أحيانا وفي ظروف الحر والشمس أحيانا أخرى... في انتظار حافلة قد تاتي وقد لا تأتي في الموعد المناسب...
انتظار طويل وممل مماثل يعانيه المغاربة بمحطات القطارات؛ حيث يعاني زبناء قطارات السي "الخليع" التي هي فعلا "تخلع" وتخيف ركابها، في ظل شروط غير مريحة يلقونها في الرحلات السككية، ويعيشون تحت سطوة انتظار وإهمال كامل في محطات القطارات المغربية التي تشبه بعضها محطات القطارات بـ"تكساس" في أفلام "الويسترن" في غياب أدنى شروط الإرشاد والراحة أو الأمن، ناهيك عن توقفات مفاجئة قد تحصل هنا وهناك وفي مناطق عبارة عن غابة أو خلاء، لمدة تزيد عن الساعة أو الساعتين أو أكثر من دون تبرير أو تعويض أو اعتذار أو حل للمشكل...
تأخرات مماثلة تحصل بالساعات تسجله طائرات "المملكة السعيدة" التي وصفها أحد الأصدقاء بـ"حافلات بالأجنحة"!، في إهمال كامل وضرب سافر لأي مصداقية أو أدنى اهتمام برعايا المملكة الشريفة.
النقل البحري لا يخرج عن القاعدة؛ عشرات من المهاجرين المغاربة، من بينهم عدد كبير من النساء والأطفال، يقضون الليالي في العراء في ميناء الجزيرة الخضراء بعد أن تتخلى عنهم شركات النقل البحرية المغربية، من دون سابق إشعار وهم ينتظرون الإبحار نحو المغرب على متن إحدى البواخر التابعة للشركات المغربية. يضلون عالقين المرة تلو الأخرى من دون إعطاء أية تفسيرات للمسافرين الذين تجدهم ينتظرون داخل سياراتهم وفي طوابير طويلة، أوعالقين في غياب أية مرافق صحية أو اجتماعية، وأحيانا من دون مأكل ولا مشرب...
غياب البرلمانيين والوزراء في مجلسي البرلمان والمستشارين، ينضاف إلى لائحة الهدر الزمني الذي يعيشه المغرب والمغاربة، حيث شعب وأمة تنتظر منهم التحدث عن مشاكلهم وانتظاراتهم و تداول قضاياهم الراهنة...
"الكونيكسيون" في الإنترنيت والتعبئة بالنسبة للهواتف المحمولة في أكبر شركة تحصد الأرباح الطائلة، لكن بخدمة غير واضحة ونصب واحتيال وصبيب رديئ..! أداء مسبق وخدمة في أسوء حالاتها...
ولحضور الأمن في المغرب قصة متفردة؛ فعند الشجار في المغرب فعليك إن أردت تدخل الأمن وحضور الشرطة في الوقت المناسب أن تطلب المستحيل ولا تطلب هذه المسألة. لأن الشرطة في المغرب وكما هو شائع بين المغاربة، لن تأت إلى بعد إراقة الدماء! لأنهم يسألونك السؤال المعروف: "واش كاين شي دم" "واش طاحت شي بطانة"..!
وعند التعرض للمرض أو للحريق أو حادثة سير عليك انتظار الإسعاف الذي قد تأتي وقد لا تأتي..!
تخيلوا معي كم من المغاربة ماتوا أو عاشوا بعاهات مستديمة بسبب تأخر هذه السيارة العجيبة والتي دورها هو"الإسعاف" يا حسرة، أي ارتباط مهمتها بالسرعة الخارقة والحضور الفوري... فكم من أرواح أزهقت بسبب تأخرهم، وكم من حالات عومل فيها المغربي بدون إنسانية، كأن يطلب منه التأدية لاستعمال الإسعاف أو أثمنة تفوق أحيانا طاقة المواطنين لنقل مريض أو حالة مستعجلة أو ميت..!
وحين تريد منهم إصلاح عطب لإحدى مصابيح الإنارة العمومية... عليك الانتظار، وربما لأسابيع..!
في المغرب، وفيما يتعلق بالشكايات فالأمر عجيب وطريف، حيث تتداول الجملة الشهيرة"خلص عاد شكي"..! إنها دولة الباكور العظمى...
والحديث عن الإدارة المغربية المعروفة بالتشبع البيروقراطي، والدواليب والدهاليز المعقدة، فهو موضوع طويل، فهي مملكة الانتظار بامتياز إنها إدارة "سير حتى تجي"! فمن الممكن أن تضيع عليك وثيقة تافهة أياما من وقتك وشغلك. بل هناك وثائق تافهة لازالت تطلب لتعذيب المواطنين وجرجرتهم لأطول وقت ممكن وإهانتهم، "شهادة الضعف" أو "شهادة الاحتياج"..! في كل مرة! إنها الإهانة المستدامة لشعب عليه أن يثبت بالوثائق وباستمرار ضعفه وفقره وأمام الملأ..!
وعند الطبيب وفي المستشفى، إن لم يكن لديك من تعرفه أو تقوم بـ"تدويرة" معتبرة لأصحاب الحال فإنك ستظل مهملا ومرميا على الرصيف وفي الردهات، والكشف عنك سيتأخر، والسرير غير موجود، والعملية معلقة إلى أجل غير مسمى... وليك الله يا الدرويش...
وفي طريقك إلى العمل أو خلال السفر وعند وقوع حادثة أو انهيار صخري، أو تراكم ثلجي على الطريق... يكون التدخل متأخرا، والحل تافها، فتجد الطوابير الطويلة من العربات والسيارات بشكل خانق بسبب فشل طبيعي في تدبير الأزمات المفاجئة التي لا يتقنها المغاربة على كل حال لأنها غير داخلة في أولوياتهم وثقافتهم، فخدمة وراحة المواطن غير مهمة، أما وصوله إلى بيته أو عمله فمسألة تافهة..!
وخلال النجاح في مباريات الوظيفة العمومية؛ ستنتظر حتى يمل الانتظار من الانتظار! للاستفادة من حق من حقوقك كإطار أو ناجح في اجتياز إحدى المباريات.. فعليك أن تعيش أياما طويلة في قلق دائم ودون نوم، وفي دوامة من التسويف والعراقيل، تجعلك تدخل في النهاية لترتاح في الوظيفة، بدل التعب والعمل بعد أن استهلكوا طاقتك قبل الحصول عليها...
وقساوة الانتظار جربتها شرائح واسعة من المعطلين، إذ العطالة في المغرب هي أكبر عناوين الانتظار القاتل، هي السم البطيء الذي يدمر الذات الشابة الطموحة المتحمسة لخدمة الوطن...
وقسوة الانتظار جربه أيضا الموظفون من أجل الاقتراب من مدنهم أو في محاولات الالتحاق بالأزواج. حيث تلعب النقابات والمعارف دور الآلة الفاسدة التي تؤطر بشكل لا ديموقراطي وغير عادل هاته المطالب الاجتماعية الآنية والمستعجلة. وإن كنت شريفا وتتبع الطرق غير الملتوية فستبقى منفيا إلى حين أو إلى حظ أو صدفة أو أمر إلهي...
قساوة الانتظار والتسويف والتماطل جربها المغاربة بشكل واضح وجيد في المحاكم المغربية، حيث أشباء محامون وأشباه قضاة يتلاعبون بمصائر شعب معظمه أمي، و جرجرتهم في مساطر قانونية
معقدة وزادها تعقيدا تلاعبات الهيئات القضائية والظلم وتفشي المحسوبية والزبونية والرشوة... قضايا لمغاربة حول جدار أو شجرة أو بئر أو محل تجاري... تستمر لسنوات بل لعقود بسب فساد القضاء. والخاسر الأكبر هو الشعب المتناحر الذي يدفع دم قلبه لتجار العدالة المخمورة بخمر الفساد المعتق والعتيق...
إن الفساد يقتات من الانتظار والتسويف، فأين هي إذن دولة المؤسسات؟ ودولة تدعي كونها في مصاف الدول الديمقراطية؟ ومن يحاسب ويراقب التلاعب بمناصب أطر مغاربة قضو السنتين والثلاثة والأربع في النضالات بشوارع العاصمة ويتحكم فيها في النهاية شخص أو مسؤول ويتصرف فيها كيفما اتفق؟ فبينما تجد إطارا توظفت وهي من مواليد 1987! وحاملة لدبلوم سنة"2010"! ودون أن تعيش ولو شهرا في العطالة مكان معطل من مواليد 1975! وحامل لدبلوم يرجع لسنة 2003! ويعيش سنته الرابعة وهو يناضل في شوارع الرباط من أجل الالتحاق بمقر عمله والاستفادة من منصبه المالي الذي استحقه منذ 1 مارس 2011! فمن يسهر على حماية مناصب الناجحين في المباريات ويسهر على نزع حقوقهم والتحاقهم بوظائفهم، وحماية مناصب أبناء الشعب من النهب والسرقة والسطو الإداري المسلح بالفساد..!
وتصادفك أينما حللت وارتحلت في هذا البلد السعيد! عقليات إدارية تقتات من التعسف والانتظار والتسويف وتحارب حل المشكلات في البيوت من خلال الحواسيب وعبر الإنترنيت، كما هو مفترض في بداية الألفية الثالثة. بل يستميتون على أن يتمسح المتمسحون بالمسؤولين على أبواب مكاتبهم، وملاحقتهم بالمقاهي التي يجلسون فيها، والأحزاب التي ينتمون إليها، بل والذهاب إلى منازلهم حيث يسكنون. " ويتجرجر المتجرجرون" من مكتب إلى مكتب، ومن إدارة إلى إدارة، ومن مدينة إلى مدينة، فتصرف الجهود في مشاكل جانبية، وتبدد الطاقات في معارك هامشية لا تزيد الأمور إلا احتقانا. عوض أن تصرف في تكوين الأجيال وتأهيل الكفاءات، ومد جسور الثقة بين مختلف الفاعلين. بل وأن يكون النقاش في مواضيع أكثر فائدة بدل أمور تافهة...
وتنظم إلى زخم انتظاراتنا، انتظاراتنا بعد كل استحقاق لتنفيد الوعود وعود الدساتير الجديدة! ووعود الانتخابات من طرف الفائزين... "ماكاين غير النبك على عينيكم أيها المنتظرون"...
إنه الانتظار ذالك القاتل الصامت، ذلك السم الذي يسري ليخدر إرادتنا ويسلبنا طاقتنا ورشاقتنا في معاندة الباطل والظلم، ويحيلنا إلى رعية مدجنة صامتة. فحين يسأل المغاربة بعضهم البعض عن احوالهم وأمورهم، يكون الجواب السائد هو "هاحنا مسلكين" و "ها حنا صابرين" و "هاحنا مخبعين حتى يحن الله" و "هاحنا معافرين مع الوقت".
إن الانتظار ماركة مسجلة للدول المتخلفة ذات العقليات الفاسدة؛ وهو علامة على عدم الاحترام للشعب وللمواطن المغربي. وهدرنا للزمن وللوقت هو دليل على أننا شعب لا يحترم الوقت ولا يقدر قيمته، ولا نلقي بالا لتحسين أدائنا وتقدم دولتنا. بل ودليل على تخلفنا وعدم إرادتنا للتقدم، ودليل أيضا وبشكل واضح ومباشر على مدى التسيب واللامسؤولية الملقاة على عاتق هؤلاء الموظفين بل وعلى الدولة اتجاه مواطنيها ومصالحها الوطنية العليا. فمن أكبر العناوين إلى جانب "الفساد" في المغرب نجد طاعون "الانتظار"؛ يطلبون منك "الصبر"... والحقيقة أنهم يطلبون منك "الصمت" على "الذل"، لأن الصبر يطلب بعد القيام بالمجهودات الكاملة لتسيير الأمور، وليس الصبر على نوم الموظفين وفسادهم وخطة النظام غير المعلنة في إلهاء شعب بكامله في مشاكل تافهة من واجب الدولة أن توفرها كحق طبيعي وأساسي للمواطن. حتى أنه أحيانا يتسائل المرء؛ هل المغرب ماكينة عملاقة منظمة للسادية والتعذيب الجماعي للشعب وللمواطنين؟
تخيلوا معي كم من الوقت الإيجابي والطاقة الإيجابية كان بالإمكان توفيرها لصالح البناء والعمل الجاد وبناء الثقة بين المواطنين من جهة وبين المسؤولين والمؤسسات من جهة أخرى.
ويكفينا تذكر استقالة مدير السكك الحديدية بالصين أكبر دول العالم بشرا! لأن مجموع التأخرات التي سجلتها قطارات بلده خلال سنة واحدة في عهده وصل" 30 دقيقة"! فأين نحن من هذا الرقم؟ إنها في المغرب الحبيب تصل إلى أيام إن لم نقل إلى أسابيع في مجموع تأخراتها الفادحة واليومية حتى أصبح العادي هو الانتظار والتأخر، والاستثناء هو الالتزام بالأوقات والمواعيد، وفي حالات نادرة ومزاجية،
ولا يكلف فيها المسؤولون حتى عناء إخبار المسافرين بالعطب ووقت التأخير المحتمل، أو مدة التوقف... ومن خلال هذه المقارنة البسيطة يظهر لنا مدى الاحتقار الذي تتعامل به بعض المؤسسات المغربية مع المواطنين.
إن بوابة الإصلاح الحقيقي تبدأ باحترام المواطنين وتفعيل فعل المواطنة، غير أنه يبدو أن هناك حصونا منيعة تعارض إرادات حل المشاكل، ولوبيات عريقة وراسخة في الفساد تصر على عرقلة عجلة الإصلاح. بل أكثر من ذلك تقول لنا الدولة من خلال استهتارها وجوقتها وسيبتها العارمة التي تسهر عليها وعلى استمرارها... "طز" فيك أيها المغربي غير المحترم، المسكين، المسحوق، الممصوص الدماء، "المغبر" في الحباسات، المهضوم الحقوق، المنتظر لسرير، أو لسيارة أمن، أو لإسعاف سريع، أو لحافلة نقل عمومي تحضر في الوقت، أو المرمي في مطار دون أدنى اهتمام... خلص عاد شكي أيها المغربي "الحقير"، مت قبل قدوم سيارة الإسعاف فأنت "بخوش" وحشرة، على دمائك أن تسيل ليأتي الأمن لحمايتك وتأمينك والنظر في حالتك، انتظر و"بخ الدم" قبل أن تنجز الإدارة مصالحك، عليك بالمحسوبية أو الرشوة لتنال سريرا أو موعدا قريبا لإجراء الفحوصات أو لتحضى بعملية جراحية في أقرب الآجال... تعذب ببطء واصمت.. انتظر الفرج.. كن صبورا وقنوعا.. سلك.. إياك أن تتألم بصوت مرتفع لأنهم سيتهمونك بالشغب والتحريض على العنف والكلام في السياسة..! وحين يولد لك صبي جديد سمه "مسلك ليام" و"عبد الصبور"، وإن ولدت لك بنت سمها "انتظار"..!
عمر يضيع وأطنان من الزمن الضائع، أطنان من الهدر، أعراض تصيبك بالسكري وضغط الدم...
فمن المسؤول ومن الرابح من كل هذا؟ وكم من الساعات والأيام والأشهر والسنوات والعقود... تضيع على الوطن؟ وكم من الزمن المغربي يهدر ويعرقل عجلة الإقلاع المغربي...
لطيفة
مقال جيد لقد وضعت يدك على مكامن الداء الذي ينخر هذه الأمة العجيبة مذا عساي أن أقول: حسبنا الله ونعم الوكيل