إلى جميع المسلمين في شهر رمضان
أخبارنا المغربية
إن الله في علمه الخلق والاصطفاء، فهو يخلق ما يشاء لما يشاء، ويصطفي من يشاء لما يشاء، يخلق البشر، ويصطفي منهم للقيادة من شاء، يصطفي الأنبياء والمرسلين، ويصطفي العلماء والفلاسفة، ويصطفي القواد والمصلحين، ويخلق الأمكنة، ويصطفي منها مهابط الوحي، ومنابت للذكريات، ومثابة التقديس والعبادة، يصطفي منها على سائر الأماكن، ويجعل أفئدة الناس تهوي إليها، ويخلق الأزمنة، ويصطفي منها مواسم لرحمته، وأياماً لنعمه وأفضاله.
ومصداق الخلق والاصطفاء في القرآن على وجه عام قوله تعالى: {الله أعلم حيث يجعل رسالته} (الأنعام:124).
ويقول: {إن الله اصطفى آدم ونوحا وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين} (آل عمران:33).
ويقول: {قال يا موسى إني اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي} (الأعراف:144).
ويقول: {وهو الذي جعلكم خلائف الأرض ورفع بعضكم فوق بعض درجات} (الأنعام:165).
وفي الاصطفاء المكاني يقول: {إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركا وهدى للعالمين * فيه آيات بينات مقام إبراهيم} (آل عمران:96-97).
ويقول: {نودي يا موسى * إني أنا ربك فاخلع نعليك إنك بالواد المقدس طوى * وأنا اخترتك فاستمع لما يوحى} (طه:11-13).
وفي الاصطفاء الزماني يقول: {إن قرآن الفجر كان مشهودا} (الإسراء:78).
ويقول: {إنا أنزلناه في ليلة القدر * وما أدراك ما ليلة القدر * ليلة القدر خير من ألف شهر} (القدر:1-3).
على هذه السُّنَّة -سُنَّة الاصطفاء في الزمان والمكان والخلق- اصطفى شهر رمضان، وكان هو الشهر الذي تهتز له قلوب المؤمنين، ويذكرون به نعم الله وأفضاله، ويرقبون فيه رحمته ورضوانه، وكان مظهر اصطفاء رمضان جملة أمور:
- أنه الشهر الوحيد الذي صرَّح القرآن باسمه.
- أنه الشهر الوحيد الذي ظهرت فيه أكبر نعم الله على عباده، وهي كتابه الذي {لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد} (فصلت:42).
- أنه فرض صومه، وجعل صومه فريضة محكمة، من أنكرها فقد خرج عن دائرة الإسلام، واستحق اللعنة الأبدية، وحُرِمَ جميع خصائص المسلمين، فهو لا يُدفن في مقابر المسلمين، ولا يرثهم ولا يرثونه، وتبين منه زوجته، وتنقطع ما بينه وبين أبنائه صلات البنوة والحفادة، وكذلك تنقطع بينه وبين سائر المسلمين صلات المحبة، والإخاء، والولاية.
وصوم رمضان عبادة، تلتقي في هدفها مع أهداف القرآن، كلاهما يربي العقول، ويسمو بالأرواح.
ولرمضان في صومه مظهر خاص، فهو يوحد المسلمين في أوقات الفراغ والعمل، وأوقات الطعام والشراب، ويُفْرِغ عليهم جميعاً صبغة الإنابة والرجوع إلى الله، ويرطب ألسنتهم بالتسبيح والتقديس، ويَعِفَّها عن الإيذاء والتجريح، ويسد عليهم منافذ الشر، والتفكير فيه، ويملأ قلوبهم بمحبة الخير والبر لعباد الله، ويغرس في نفوسهم خُلُقَ الصبر الذي هو عُدَّة الحياة.
وشهر رمضان -بعد هذا كله- هو شهر الذكريات الإسلامية الأولى؛ ففيه يذكر المسلمون نزول القرآن الكريم: {شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان} (البقرة:185). وفيه يذكر المسلمون تركيز الاهتمام بالقوة على أساس من كبح جِماح الشرك والوثنية، وذلك كما نراه في غزوة بدر الكبرى.
ويذكرنا بعودة المسلمين من المدينة إلى مكة المكرمة، بعد أن أُخرجوا منها لا لشيء سوى أنهم قالوا: {ربنا الله} وبذلك تمَّ على أيديهم الفتح المبين، وفي ذلك يقول الله تعالى: {إنا فتحنا لك فتحا مبينا * ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر ويتم نعمته عليك ويهديك صراطا مستقيما * وينصرك الله نصرا عزيزا} (الفتح:1-3).
إن الصوم حرمان من الطعام والشراب وما ألفه الإنسان من شهوات، وهذا الحرمان ليس هو مقصود الله من الصوم، وإنما مقصوده الذي يريده من عباده، هو إعداد نفوسهم بالصوم للخير والتقوى، يقول سبحانه: {كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون} (البقرة:183).
عُني القرآن عناية خاصة بفريضة الصيام، وجعل منه مظهر وحدة للمسلمين، لا يؤثر على هذه الوحدة تباين أمكنتهم، ولا اختلاف ألسنتهم، ولا تعدد جنسياتهم؛ فالإسلام وحَّد بينهم في العقيدة، وفي العبادات، وفي المعاملات، وفي الأخلاق، وفي المسؤولية، فالكل يؤمنون برب واحد، وإله واحد، ويتجهون إلى قبلة واحدة، ويصومون شهراً واحداً، ويرقبون هدفاً واحداً، ويرتبطون بالصالح العام.