السيرة النبوية والوسطية والاعتدال
أخبارنا المغربية
مِنْ خلال السيرة النبوية وما فيها مِنْ مواقف وأحداث، دَعانا نبينا مُحمد صلى الله عليه وسلم إلى التَّوسُّطِ والاعتدالِ في أمور الدِّين والدنيا، وأرشدنا إلى ما يَنفَعُنا مِنَ الأعمال والطاعات والعبادات، وعلَّمَنا كيْف نؤدِّي هذه الأعمال والعبادات دونَ إفراطٍ أو تَفريط، وحذَّرنا مِنَ التَّنطُّع وهو التكلف والغلو والتجاوز للحدود في الأقوال والأفعال.. والمواقف والأحاديث النبوية الدالة على ذلك مِنَ السيرة النبوية كثيرة، ومِنْ ذلك:
1 ـ مَنْ رَغِب عن سنّتي فليس منّي:
عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: (جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم يسألون عن عبادة النبي صلى الله عليه وسلم، فلما أُخْبِروا كأنّهم تقالّوها، فقالوا: وأين نحن مِنَ النّبي صلى الله عليه وسلم، قد غُفِرَ له ما تقدّم مِنْ ذنبه وما تأخّر، قال أحدهم: أمّا أنا فإنّي أصلي الليل أبدا، وقال آخر: أنا أصوم الدّهر ولا أفُطر، وقال آخر: أنا أعتزل النّساء فلا أتزوّج أبدا، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم فقال: أنتم الّذين قلتم كذا وكذا؟! أما والله إنّي لأخشاكم لله وأتقاكم له، لكنّي أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوّج النّساء، فمن رَغِبَ (أعرض) عَنْ سنّتي فليس منّي) رواه البخاري. قال ابن حجر في "فتح الباري": "المراد بالسُنَّة الطريقة لا التي تقابل الفرض، ومعنى الرغبة عن الشيء الإعراض عنه إلى غيره، والمراد مَنْ ترك طريقتي وأخذ بطريقة غيري فليس مني.. وقوله: (فليس مِنِّي).. فمعنى ليس مني أي على طريقتي، ولا يلزم أن يخرج عن المِلَّة (الدين)".
2 ـ والقَصْد القَصْد تبلغوا:
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (.. سَدِّدُوا وقارِبُوا، واغْدُوا ورُوحُوا، وشَيءٌ مِنَ الدُّلْجَة، والقَصْدَ القَصْدَ تَبْلُغوا) رواه البخاري. (سَدِّدُوا وقارِبوا) أي: اقْصِدوا الصَّواب، ولا تُفْرِطوا فتُجهِدوا أنفُسَكم في العبادة، لئلَّا يُفضي بكم ذلك إلى المَلَل فتَتْركوا العمل فتُفَرِّطُوا. ثمَّ قال: (واغْدُوا ورُوحُوا، وشَيءٌ مِن الدُّلْجة) يعني: أنَّ هذه الأوقاتَ الثَّلاثة أوقات العمل والسَّير إلى الله، فالغُدْوة: أوَّل النَّهار، والرَّوحة: آخِره، والدُّلْجَة: سَيْرُ آخِرِ اللَّيل، وسَيْر آخر اللَّيلِ مَحمودٌ في سَيْرِ الدُّنيا بالأبدان، وفي سَيرِ القُلوب إلى الله بالأعمال، وقال: (وشَيءٌ مِن الدُّلْجَة) ولم يقل: والدُّلَجْة، تَخفيفًا لمشقَّة عَمَل اللَّيل. ثم قال: (والقَصْدَ القَصْدَ) أي: اقْتَصِدوا في الأمور، والزَموا الطَّريق الوَسَطَ المعتَدِل، وتجنَّبوا طَرَفَيِ الإفراط والتَّفريط، فالقَصْد هنا هو التوسُّط، فإن التَّوسُّطَ في الأمور كلِّها يُبلِّغُكم غايتَكم وهَدفَكم الذي تَنشدونه. قال الشيخ ابن عثيمين: "فالرسول عليه الصلاة والسلام أمرنا أن لا نجعل أوقاتنا كلها دأباً في العبادة، لأن ذلك يؤدي إلى الملل والاستحسار والتعب والترك في النهاية".
3 ـ إن اللَّه لَغنيّ عن تعذيب هذا نفسه:
عن عبد الله بن عباس رضي اللَّه عنه قال: (بينما النبي صلى اللَّه عليه وسلم يَخْطُب، إذا هو برجل قائم، فسأل عنه؟ فقالوا: أبو إسرائيل، نذر أن يقوم في الشمس، ولا يستظلّ، ولا يتكلّم، ويصوم، فقال النبي صلى اللَّه عليه وسلم: مروه، فليجلس، وليستظلّ، وليتكلّم، وليُتمّ صومه) رواه البخاري. قال الخطابي: "قد تضمن نذره نوعين: الطاعة والمعصية، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم بالوفاء بما كان منها مِنْ طاعة وهو الصوم، وأن يترك ما ليس بطاعة مِنَ القيام في الشمس وترك الكلام وترك الاستظلال بالظل، وذلك أن هذه الأمور مشاق تتعب البدن وتؤذيه، وليس في شيء منها قُرْبَة إلى الله تعالى". وعن أنس رضي اللَّه عنه قال: (نذرت امرأة أن تمشي إلى بيت اللَّه الحرام، فسئل النبيّ صلى اللَّه عليه وسلم عن ذلك؟ فقال: إن اللَّه لغني عن مشيها، مروها فلتركب) رواه الترمذي.. ورأى النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً يُهادَى بين اثنين، فسأل عنه؟ فقالوا: نذر أن يحجّ ماشياً، فقال: (إن اللَّه لغنيّ عن تعذيب هذا نفسه، مروه فليركب) رواه البخاري.
قال ابن تيمية: "مما ينبغي أن يُعرف أن الله ليس رضاه أو محبته في مجرد عذاب النفس وحَمْلِها على المشاق، حتى يكون العمل كل ما كان أشق كان أفضل.. قول بعض الناس: الثواب على قدر المشقة ليس بمستقيم على الإطلاق، كما يستدل به طوائف على أنواع من الرهبانيات والعبادات المُبْتَدَعَة، التي لم يشرعها الله ورسوله، من جنس تحريمات المشركين وغيرهم ما أحل الله مِنَ الطيبات، ومثل التعمق والتنطع الذي ذمه النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال: (هلك المتنطعون).. مثل حديث: أبي إسرائيل الذي نذر أن يصوم .. فكثيراً ما يكثر الثواب على قدر المشقة والتعب، لا لأن التعب والمشقة مقصود من العمل، ولكن لأن العمل مستلزم للمشقة والتعب، هذا في شرعنا الذي رفعت عنا فيه الآصار والأغلال، ولم يجعل علينا فيه حرج، ولا أُرِيد بنا فيه العسر".
وقال الشاطبي: "إذا كان قصد المكَّلَف إيقاع المشقة فقد خالف قصد الشارع مِنْ حيث إن الشارع لا يقصد بالتكليف نفس المشقة، وكل قصد يخالف قصد الشارع باطل، فالقصد إلى المشقة باطل، فهو إذاً من قبيل ما يُنهَى عنه، وما ينهى عنه لا ثواب فيه، بل فيه الإثم إن ارتفع النهي إلى درجة التحريم، فطلب الأجر بقصد الدخول في المشقة قصد مناقض".
4 ـ هلك المتنطعون:
عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (هَلَكَ المُتَنَطِّعون. قالها ثَلاثًا) رواه مسلم. (هَلَك): خاب وخسر. (المتنطعون): المتعمقون المغالون في الشيء من كلامٍ وعبادةٍ وغير ذلك. (قالَها ثلاثا) أي: قال هذه الكلمة ثلاث مرات مبالغة في الإبلاغ والتعليم والتحذير. وللعلماء وشرَّاح الأحاديث النبوية في تفسير وشرح "المُتَنَطِّع" عبارات ومعان كثيرة مختلفة، تتوافق ولا تتعارَض، وكلها تجتمع في معنى واحد، يرجع إلى التكلف، والتشدد، والغلو، والتجاوز. قال ابن قُرْقُول في "مطالع الأنوار على صحاح الآثار": "(هَلَكَ المُتَنَطِّعُون) يعني: الغالين، وهم المتعمقون المبالغون في الأمور". وقال القاضي عِياض في "إِكمال المُعْلِم بفوائد مسلم": "(هلك المتنطعون): هم المتعمقون الغالون، ومعنى هلاكهم: يريد في الآخرة". وقال الصنعاني في "التنوير شرح الجامع الصغير": "(هلك المتنطعون) المتعمقون الخائضون فيما لا يعنيهم، وقيل: المبالغون في عبادتهم بحيث يخرجون عن قوانين الشريعة أقوالًا وأفعالًا، أي هلكوا في الدين كما هلك الرهبانية ونحوهم". وقال ابن الجوزي في "كشف المشكل من حديث الصحيحين": "التنطع: التعمق والغلو والتكلف لما لم يؤمر به". وقال النووي في "شرح صحيح مسلم: "أي المتعمقون الغالون المجاوزون الحدود في أقوالهم وأفعالهم".. وقال الشيخ ابن عثيمين: "(المتنطعون): المتعمقون المتشددون في غير مواضع التشديد.. فكل مَنْ شدَّد على نفسه في أمرٍ قدْ وسَّع الله له فيه فإنه يدخل في هذا الحديث"..
السيرة النبوية مليئة بالمواقف الدالة على مَنْع النبي صلى الله عليه وسلم المسلم مِنْ تَكَلُّف المشقة والتعب، ونهيه عن الغلو والتنطع في الدين، ومِن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: (يا أيُّها الناس، خذوا مِن الأعمال ما تطيقون، فإن الله لا يَمَلُّ حتى تَمَلُّوا) رواه البخاري. وقوله صلى الله عليه وسلم: (هَلَكَ المُتَنَطِّعُون. قالها ثَلاثًا). قال الشيخ ابن عثيمين في "القول المفيد على كتاب التوحيد": "والواجب أن يسير العبد إلى الله بين طرفي نقيض بالدين الوسط، فكما أن هذه الأمة هي الوسط ودينها هو الوسط، فينبغي أن يكون سيرها في دينها على الطريق الوسط".. والوسط في كل الأمور والمسائل والأحوال هو هَدْي وسُنّة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.. قال الشيخ ابن عثيمين في "الاعتدال في الدعوة": "يجب ألا نجعل المقياس في الشدة واللين هو ما تمليه علينا أهواؤنا وأذواقنا، بل يجب أن نجعل المقياس هَدْي النبي صلي الله عليه وسلم وهدي أصحابه، والنبي صلي الله عليه وسلم رسم لنا هذا بقوله وبفعله وبحاله صلي الله عليه وسلم، رسمه لنا رسمًا بيّنًا".. فالسنة النبوية هي سفينة النجاة وبر الأمان، مَنْ ركبها نجا، ومَنْ تخلف عنها غرق. قال الزهري ـ أحد الأئمة الثقات مِنَ التابعين، أخذ علمه عن خير قرون هذه الأمة، فعِلْمه عن صغار الصحابة وكبار التابعين، توفي 124هـ ـ: "كان مَنْ مضى مِنْ علمائنا يقول: الاعتصام بالسُنة نجاة"، وقال الإمام مالِك: "السُنَّة سفينة نوح مَنْ ركبها نجا، ومَنْ تخلف عنها غرق"..
مِنْ سعادة المسلم أن يرزقه الله طاعة النبي صلى الله عليه وسلم، واتباع سنته، والاهتداء بهديه، قال الله تعالى: {وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا}(النور:54). قال السعدي: "إلى الصراط المستقيم، قولا وعملا، فلا سبيل لكم إلى الهداية إلا بطاعته، وبدون ذلك، لا يمكن، بل هو مُحال". وقال الله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ}(الأحزاب:21). قال ابن كثير: "هذه الآية أصل كبير في التأسي برسول الله صلى الله عليه وسلم في أقواله وأفعاله وأحواله". وقال تعالى: {وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا}(الحشر:7). قال ابن كثير: "أي مهما أمركم به فافعلوه، ومهما نهاكم عنه فاجتنبوه، فإنه إنما يأمركم بخير وإنما ينهى عن شر"..