عبد الرحمان سعيدي
إنه من أتم الغباوة والجهل أن يطعن بعض المبطلين في العقيدة الإسلامية، في بلاد المسلمين، بطعون واهية، حيث يصورون هذه العقيدة بأنها جمدت عقول المسلمين، نتيجة اعتمادهم على صحيح البخاري رحمه الله، الذي هو أهم كتاب يفصل أصول وفروع هذه العقيدة، ويزعمون أن اعتماد المسلمين على هذا الكتاب هو الذي أدى إلى تخلفهم وانحطاطهم، بسبب تجميد فكرهم وعدم تحريره من قيود الكتاب الجامدة، في الوقت الذي تقدم فيه غيرهم، على حد زعم هؤلاء المبطلين.
فما يقوم به هؤلاء المبطلون ممن ينسبون إلى الإسلام يعتبر ضربا في صميم العقيدة الإسلامية واستهزاء بثوابتها ومقدساتها ورموزها، وهي العقيدة التي يعتنقها المغاربة طواعية منذ ما ينيف عن أربعة عشر قرنا، والتي عليها أسس المسلمون حضارة فريدة صمدت طيلة القرون السالفة، بل قد شع نورها في العالم وأفادت الإنسانية جمعاء بما أحدثته من ثورة علمية وفكرية وثقافية في جميع المجالات، والتي لولاها لما قامت النهضة في أوروبا بل ولأخذ العالم مسارا آخر غير مسار العلم والتطور، بشهادة المنصفين من الغربيين أنفسهم، كما أن المغاربة قد نصوا في دستورهم الجديد على أن هذه العقيدة تعتبر من الثوابت الجامعة للأمة، والتي لا يجب المساس بها أو الطعن فيها بأي حال من الأحوال.
إن عمل المبطلين هذا في محاولتهم النيل من هذه العقيدة بهذه الأساليب القذرة إنما ينم عن جهلهم بحقيقة هذه العقيدة وبحقيقة الحضارة التي أفرزتها وبحقيقة الدور الحضاري الإنساني الذي لعبه المسلمون وعلى رأسهم المغاربة، في وضع أسس الحضارة الإنسانية.
وفي ردنا على هذا الزعم الباطل نسوق شهادة المستشرقة الألمانية زيغريد هونكه، وهي من أنصف المستشرقين الذين بينوا حقيقة الإسلام والدور الفكري والعلمي والحضاري الذي قام به المسلمون عبر التاريخ، فإن ذلك أبلغ في الرد وأفحم للخصم.
تقول في الفصل الرابع من كتابها " شمس العرب تسطع على الغرب" تحت عنوان: طلب العلم عبادة:
« لقد أوصى محمد (صلى الله عليه وسلم) كل مؤمن رجلا أو امرأة بطلب العلم، وجعل من ذلك واجبا دينيا، فهو الذي يقول: «اطلبوا العلم من المهد إلى اللحد»، ويرشد أتباعه دائما إلى هذا فيخبرهم بأن ثواب التعلم كثواب الصيام وان ثواب تعليمه كثواب الصلاة.
وكان محمد (صلى الله عليه وسلم) يرى في تعمق أتباعه في دراسة المخلوقات وعجائبها وسيلة التعرف على قدرة الخالق، وكان يرى أن المعرفة تنير طريق الإنسان مرددا عليهم: «أطلبوا العلم ولو في الصين».
والرسول (صلى الله عليه وسلم) يلفت أنظارهم إلى علوم كل الشعوب، فالعلم يخدم الدين، والمعرفة من الله وترجع إليه، لذلك فمن واجبهم أن يصلوا إليها وينالوها أيا كان مصدرها ولو نطق بالعلم كافر.
وعلى النقيض تماما يتساءل بولس الرسول (Paulus) وقرأ: «ألم يصف الربّ المعرفة الدنيوية بالغباوة؟».
مفهومان مختلفان بل عالمان منفصلان تماما، حددا بهذا طريقين متناقضين للعلم والفكر في الشرق والغرب. وبهذا اتسعت الهوة بين الحضارة العربية الشامخة والمعرفة السطحية المعاصرة في أوروبا حيث لا قيمة لمعرفة الدنيا كلها.
...
وإذا كانت القوى الدينية قد كرست جهدها للهدف الديني وأنشأت مدارس ضخمة للفلسفة التي تخدم مبادئ الدين، مدارس تضارع في ضخامتها قباب تلك الكنائس، إلا أنها قد هبطت بالمعرفة الدنيوية، فابتعدت تماما عن الثقافة والفكر الإغريقي وانغمست في الخرافات والترهات التي لن نستطيع اليوم أن نتصور مدى انتشارها وسيطرتها على العقول الساذجة. ولم تشمل هذه الحركة الرجعية العامة الناس فحسب، بل ان المتعلمين ايضا لم يكن لهم من زاد عقلي سوى بعض الأساطير المليئة بالخرافات والمقتبسة اسوأ اقتباس عن اللاتينية البربرية أو عن قصص الإغريق وأساطير الشرق القديمة.
...
ولقد كان الفكر الإغريقي، يمثل للمسيحيين شبحا ملعونا فلم يقتربوا منه بل حطموا جزءا كبيرا من تراثه وحرموا منه البشرية. ...
... فقد بدت للسادة المهيمنين على الأمور ضرورة تحريم الكتب التي تهتم «بالأمور الحقيرة» الدنيوية على المتعلمين ورجال الدين. ففي عام 1206م نبه مجمع رؤساء الكنائس المنعقد في باريس رجال الدين بشدة إلى عدم قراءة كتب الطبيعة واعتبر ذلك خطيئة لا تغتفر.
...
ومن هنا يتضح لنا تماما لماذا احتاجت الحضارة في الغرب ألفا من السنين قبل أن تبدأ بالازدهار تدريجيا، ...
وما إن انقضى قرن واحد من الزمان على الفتوحات الإسلامية حتى ازدهرت حضارة العرب وآتت أكلها مكتملة ناضجة.
...
فالإسلام لا يعرف وسيطا بين العبد وربه، لم يكن لديه على الأقل في تلك الظروف الحاسمة طبقة من الكهنة ولا تنظيمات وسلطات عليا مشرفة. وعلى العموم فإن مجال حرية الرأي كان أوسع. وحيثما كانت المسيحية تطغى نتيجة تسامح المسلمين كان ذلك دائما يؤدي إلى كساد العلوم وإهمالها، ولعل إفناء الطبقة العلمية على يد الإسبان والمغول هو خير دليل على ما نقول.
كانت الاحتكاكات بين الآراء المختلفة قد منحت الحركة الفكرية حيوية دائمة وحمت الإسلام من الجمود وأجبرته على أن يسلح نفسه علميا وان يتطور بالقوى العقلية وينهض بها من سباتها. وساعده على ذلك المطالب العديدة المنبثقة من شعائر الدين أو من الحياة اليومية للشعوب. ...
...
ففي كل حقل من حقول الحياة صار الشعار للجميع: «تعلم وزد معارفك قدر إمكانك وأينما استطعت». وبأقدام ثابتة ونفوس هادئة مطمئنة، تعرف حقها وتؤدي واجبها، أقبل العرب على ما وجدوه من معارف فاغترفوا منها قدر جهدهم، وما رأوا فيه نفعا لهم.
وهم في احتكاكهم بحضارات الهند وفارس والصين يصادفون بين الحين والآخر قطعا متناثرة من حضارات الإغريق أو الإسكندرية. ولكن كل ما كانوا يجدونه من آثار تلك الحضارات العظيمة كان لا يشفي غليلهم. لقد ذاقوا حلاوة العلم فازداد شوقهم إلى البحث عنه، ولم يعودوا يرضون بغير العلم والبحث بديلا.
وبدأ نوع فريد في التاريخ من طرق الكشف عن كنوز المعرفة خصصت له البعثات الضخمة والأموال الطالة بل واستخدمت لأجله الوسائل الدبلوماسية، وخدمته سياسة الدولة الخارجية. ». انتهى كلامها بتصرف.
وبعد، فهذا الدرس البليغ الذي لا يحتاج إلى مزيد من التعقيب ولا إلى مزيد من الإيضاح والبيان يزيدنا يقينا وإيمانا بأن حضارة المسلمين هي التي حررت فكر الإنسان من قيود الخرافة والتقليد وأرشدته إلى التدبر والإجتهاد والاستنباط والاستكشاف، وأن المسلمين هم من كشف كنوز المعرفة الإنسانية في جميع فروعها وفنونها وزاد عليها فاكتشف وأبدع، في الوقت الذي حاربت فيه الكنيسة المعرفة الإنسانية وحطمت مصادرها ومنعت تعلمها، هذا خلافا لترهات المبطلين.
ومما لا يماري فيه إلا جاحد أن مصدر المعرفة عند المسلمين ومحرك هذه الثورة الفكرية والحضارية إنما هو القرآن الكريم والسنة النبوية، فالقرآن مليء بالآيات التي تحث على التفكر في الأنفس والآفاق:
كما قال الله تعالى: «قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۚ وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ» (يونس:110). وغير ذلك من الآيات الكثيرة.
و قد ذم الله سبحانه اولئك الذين يعطلون حواسهم ولا يستخدمونها في التفكر والتدبر، قال تعالى: «وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ ۖ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا ۚ أُولَٰئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ ۚ أُولَٰئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ» (الأعراف:179).
وقد كان النبي عليه السلام هادي الأمة ومعلمها، وصحَّ عنه صلى الله عليه وسلم أنه حث على طلب العلم في أحاديث كثيرة.
فلهذه الأسباب شمر الصحابة رضي الله عنهم عن ساعد وساق في سبيل طلب العلم، واقتفى التابعون أثرهم في ذلك، وجرت السنة بعدهم على تحصيل العلم وتعليمه، ومن أوائل العلوم التي اعتنت بها الأمة علوم القرآن والسنة، مما أدى إلى تدوين السنة، فظهرت أوائل المصنفات في النصف الأول من القرن الثاني، لكنها جمعت بين الحديث وأقوال الصحابة والتابعين، لذلك ارتأى بعض العلماء تجريد الحديث بالتأليف فظهرت المسانيد في النصف الثاني من القرن الثاني، لكنها مزجت بين الحديث الصحيح والضعيف، مما دفع الإمام البخاري رحمه الله في بداية القرن الثالث، إلى إفراد الحديث الصحيح بالتأليف.
ويعتبر القرن الثاني الهجري عصر ازدهار العلوم الإسلامية عامة وعلوم السُّنَّة النبوية خاصة، حيث نشطت الرحلة في طلب العلم، وتوسعت العلوم وازدهرت في التاريخ والجغرافيا والأدب والفلسفة والطب وغيرها، ونشطت الترجمة، إلى جانب العلوم الشرعية.
ومما يجب التنبيه عليه أن العلماء في تلك العصور كانوا يجمعون بين التخصص وبين شمولية الموسوعية، وكانت العلوم الشرعية هي الركيزة الجامعة التي تلتف حولها بقية العلوم، كما أن تلك العلوم تأثرت بمنهج أهل الحديث، لأنهم أول من وضع مناهج البحث والتدوين والتثبت من الأسانيد، إضافة إلى كون السنة هي المصدر الثاني للمعرفة بعد القرآن الكريم، فكان العلماء على اختلاف تخصصاتهم يفتقرون إلى أهل الحديث لمعرفة الحديث الصحيح من غيره، فهم سندهم و مصابيحهم التي يهتدون بها في دروب تلك المعارف.
ومن هنا تتجلى لنا مكانة الإمام البخاري رحمه الله تعالى وفضله، فهو إمام الحفاظ وأمير المؤمنين في الحديث وطبيب الحديث في علله، وهو أول من ميز بين الحديث الصحيح والسقيم، وكتابه أصح الكتب المؤلفة في الحديث والمتلقى بالقبول، فهو أجل كتب الإسلام وأفضلها بعد كتاب الله تعالى، ويأتي بعده كتاب تلميذه الإمام مسلم رحمه، الذي سار على نهجه في إفراد الحديث الصحيح بالتأليف.
فكان الإمام البخاري رحمه الله بهذا الفضل شيخ الإسلام، لأنه المرجع في الحديث الذي يلجأ إليه العلماء على اختلاف طوائفهم وتشعب معارفهم، وقد تميز رحمه الله بجمعه بين الحفظ والإتقان في علم الرواية وبين والاجتهاد وسمو الفكر وبعد النظر، كما يظهر ذلك في كتابه الجامع الصحيح.
فهو رحمه الله سراج الأمة وسندها وقطب المعرفة الإسلامية، قيضه الله تعالى للذب عن السنة، فاستحق بذلك كل تقدير واحترام وتبجيل.
خاتمة:
وبعد هذه الحقائق أفلا نرد على هؤلاء المبطلين بالتساؤل التالي:
من ذا الذي يستحق يا ترى أن يوصف بالجمود الفكري؟
بل من الذي يتصف فوق ذلك بالتعصب المقيت وبالتقليد الأعمى؟
من الذي تصدق عليه صفات الجهل والغباوة والرعونة والسخافة والدناءة والسفه؟
ألم ينغمس هؤلاء المبطلون في الخرافات والترهات التي لا يمكن أن نتصور مدى سيطرتها على عقولهم الساذجة، تماما كما وصفت به "زيغريد هونكه" أصحاب العقول الساذجة في أوروبا؟
ومن ناحية أخرى، أو ليس الإسلام هو الذي حرر الفكر من الجمود وانطلق به في رحاب المعرفة الواسعة؟
أو ليس المسلمون هم من علم الغرب وبذر حب الحضارة في أوروبا، بل وفي العالم بأسره؟
أو ليس البخاري هو أجل من صان أهم مصادر الفكر الإنساني؟
أو لم ينقل إلينا بكل أمانة وإخلاص نصائح رسول الإنسانية عليه السلام بضرورة تعلم العلم وحفظه وتعليمه، كما نقل قواعد الحضارة في العلوم والقيم الإنسانية؟
أيمكن أن يوصف عمله بالجمود وهو شيخ الإسلام وإمام المجتهدين وسراج الحضارة الإنسانية؟
أو لا يستحق البخاري أن يكون معلم الإنسانية وحافظها بعد أن كان شيخ الإسلام بلا منازع؟
أولا يجدر بهؤلاء المبطلين أن يبحثوا في الأسباب الحقيقية لانحطاط المسلمين، بدل أن يحاولوا حجب أشعة الشمس بالغربال؟
أفلا يتنبه العلماء وولاة الأمور إلى خطر هذه الفتنة التي تشكك في العقيدة الإسلامية، وتسعى إلى هدم الحضارة التي حافظ عليها المغاربة منذ قرون؟
والله ولي التوفيق وهو المستعان على كل حال.