أخبارنا المغربية
إن الله تعالى قد قسم بين العباد أرزاقهم (وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ) (هود:6)
وقد جعلهم ربنا تبارك وتعالى متفاوتين في ذلك تفاوتا له فيه الحكمة البالغة والآيات الباهرة ( إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيراً بَصِيراً ) (الإسراء:30) . وكما في قوله تعالى:
( نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيّاً وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ )(الزخرف: من الآية32).
ومن رحمة الله تعالى بالعبد أن يرزقه القناعة والرضا، وأن يوفقه لتدبير معيشته والاستغناء عن مد يده لغيره، وهذا من المنجيات كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: " ثلاث منجيات " وعد منها : " القصد في الغنى والفقر"..لكن بعض الناس لا يقنع، وبعضهم لا يحسن تدبير معيشته وفق ما رزقه الله من مال فينفق أكثر مما يأتيه فيلجأ إلى الدَّين بسب سوء تدبيره، وهو في غمرة الحياة غافل عن الآثار الوخيمة للدين.
النبي يتعوذ بالله من الدَّين
لأن الدَّين حمل ثقيل وهم عظيم فقد استعاذ منه خير البرية صلى الله عليه وسلم حين دعا بهذا الدعاء الجامع : " اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن، وأعوذ بك من العجز والكسل، وأعوذ بك من الجبن والبخل، وأعوذ بك من غلبة الدين وقهر الرجال"رواه البخاري.
إن أدلة الشرع المطهر لتدل على خطورة أمر الاستدانة، فها هو الشهيد الذي يغفر له عند أول قطرة من دمه، ويؤمَّن من عذاب وفتنة القبر، ويشفع في سبعين من أهله، وروحه في حواصل طير خضر في الجنة تأوي إلى قناديل معلقة بالعرش، يغفر له كل شيء إلا الدَّين، كما جاءت بذلك السنة الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم : "يغفر للشهيد كل ذنب إلا الدَّين" رواه مسلم.
ومما يدل على خطورة الدَين على من تساهل فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أُتِي بجنازة وعلى صاحبها دين لم يصل عليه حتى تقضى عنه ديونه أو يتحملها أحد الأحياء، فلما فتح الله عليه وجاءه المال كان يقضي عن موتى المسلمين.
وينبغي أن يعلم أن التأخر في سداد الدين عن الميت يعد بلاء عليه فقد روى جابر رضي الله عنه قال: توفى رجل فغسلناه وحنطناه وكفناه ثم أتينا به رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي عليه فقلنا: تصلي عليه؟ فخطا خطى، ثم قال: "أعليه دين؟" قلنا: ديناران، فانصرف، فتحملهما أبو قتادة، فأتيناه فقال أبو قتادة: الديناران عليَّ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "حقَّ الغريمِ وبَرئَ منهما الميت؟" قال: نعم، فصلى عليه، ثم قال بعد ذلك بيوم: "ما فعل الديناران؟" فقال: إنما مات أمس، قال: فعاد إليه من الغد، فقال: قد قضيتهما، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "الآن بردت عليه جلده"(رواه أبوداود والنسائي).أي الآن برد جلد ذلك الميت بسبب كونه مرهونًا بالدين قبل ذلك.
ويدل على ذلك أيضا ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " سُبحانَ اللهِ ماذا أُنْزِلَ مِن التَّشديدِ في الدَّينِ، و الَّذي نَفسي بيدِه لَو أنَّ رجلًا قُتِلَ في سبيلِ اللهِ ثمَّ أُحْيِيَ ثمَّ قُتِلَ ثمَّ أُحْيِيَ ثمَّ قُتِلَ، وعليهِ دَيْنٌ ما دخَلَ الجنَّةَ حتَّى يُقْضَى عنهُ دَيْنُه"رواه أحمد.
تدبير المعيشة خير من الاستدانة
إن العاقل اللبيب لهو الذي يستعين الله تعالى على أموره كلها ولا يلجأ إلى الدين ما استطاع إلى ذلك سبيلا، وقد أمر الله عباده أن يراعوا في نفقاتهم ما يرزقهم الله تعالى إياه ( لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً ) (الطلاق:7). فهذا أمر من الله تعالى بالإنفاق على قدر الرزق، ووعدٌ منه سبحانه للفقير باليُسر بعد العسر إذا أنفق على قدر رزقه، وهو وعد حق؛ لأن من أنفق على قدر رزقه ولم يستدِن ليجاري الأغنياء فإنه سيستغني؛ لأن تدبيره نفقتَه وعدم استدانته تؤول به إلى غناه بكسبه، فينفقه على نفسه وعياله، لا لسداد دينه فيبقى معسرا.
أنزل حاجتك بالله وخذ بالأسباب
إن العبد المؤمن ينزل حاجته بربه فيعلن لله تعالى الفقر والحاجة مع يقينه بغنى ربه وجوده وكرمه وسعة فضله، وهو في نفس الوقت يأخذ بأسباب الكسب الحلال الطيب( هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ) (الملك:15).
إذا ابتليت بالدين فبادر بالقضاء
ينبغي على العبد إذا ابتلي بالحاجة فاستدان أن يجتهد في قضاء دينه سريعا حتى تبرأ ذمته، ويلقى ربه خاليا من الديون، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" لو كان لي مثل أحد ذهباً ما يسرني ألا يمر علي ثلاثة أيام وعندي منه شيء إلا شيء أرصده لدين"(رواه البخاري) فقد كان صلى الله عليه وسلم حريصاً على قضاء دينه.
وإذا كان العبد عند استدانته ينوي الخير ويعزم على السداد فإن الله تعالى سيوفقه لذلك، أما من يريد أكل أموال الناس بالباطل والمماطلة فإن عاقبته أليمة في الدنيا والآخرة، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: " من أخذ أموال الناس يريد أداءها أدى الله عنه، ومن أخذها يريد إتلافها أتلفه الله"رواه البخاري.
فنظرة إلى ميسرة
وعلى الجانب الآخر فإننا نوجه دعوة لمن وسع الله عليهم أن يتصدقوا ويوسعوا على عباد الله مستحضرين أنه "ما نقصت صدقة من مال"رواه مسلم. وإذا أنزل بهم فقير أو محتاج حاجته أن يكونوا عونا له عليها، وإذا لم تَجُدْ نفوس بعض الأغنياء بالصدقة فلا أقل من أن يقرضوا من احتاج وأن يصبروا عليه إذا أعسر، لقوله تعالى : (وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) (البقرة:280).
وليعلم إخواننا الأغنياء أنهم بصبرهم على المدين المعسر ينالون أجرا عظيما كما دل عليه ما رواه أحمد رحمه الله عن بريدة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:"من أنظر معسراً فله بكل يوم مثله صدقة"، قال: ثم سمعته يقول: "من أنظر معسراً فله بكل يوم مثليه صدقة"، قلت: سمعتك يا رسول الله تقول: من أنظر معسراً فله بكل يوم مثله صدقة، ثم سمعتك تقول: من أنظر معسراً فله بكل يوم مثليه صدقة، قال: "له بكل يوم صدقة قبل أن يحل الدين، فإذا حل الدين فأنظره فله بكل يوم مثليه صدقة".
وروى مسلم رحمه الله عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من أنظر معسراً أو وضع عنه أظله الله في ظله".
وعن أبي قتادة رضي الله عنه قال :سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:"من نفس عن غريمه أو محى عنه كان في ظل العرش يوم القيامة"رواه أحمد والترمذي.
قال ابن القيم رحمه الله تعالى في تعليل هذا الحديث:( لأنه لما جعله في ظل الإنظار والصبر، ونجاه من حر المطالبة، وحرارة تكلف الأداء مع عسرته وعجزه؛ نجاه الله تعالى من حر الشمس يوم القيامة إلى ظل العرش).
وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"كان تاجر يداين الناس فإذا رأى معسراً قال لصبيانه :تجاوزوا عنه لعل الله أن يتجاوز عنا، فتجاوز الله عنه".
وصية أخيرة
أوصي بها نفسي والمسلمين أن نجتهد ما استطعنا في تجنب الاستدانة، وأذكر بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم الذي فيه : "اللهم إني أعوذ بك من المأثم والمغرم"، فقال له قائل: ما أكثر ما تستعيذ من المغرم! فقال عليه الصلاة والسلام:"إن الرجل إذا غرم حدث فكذب ووعد فأخلف"متفق عليه.
وجاء عن معاوية رضي الله عنه أنه قال: رِقُّ الحُرِّ الدَّين.
ويكفي في ذم الدَّين ما اشتهر عند الناس أن الدين همٌّ بالليل وذل بالنهار.
قال أحد المدينين:
ألا لـيت النهار يعـود ليـلاً فإن الصبـح يأتي بالهمـوم
حوائج ما نطيق لها قضاء ولا دفعا وروعات الغريم