الحسين بوخرطة
من البديهي أن التنمية الديمقراطية تتطلب ديمومة التوازن السياسي بحكومة ومعارضة قويتين، والوعي التام بالحاجة الدائمة لتنمية القدرة على الاستجابة الفعالة للتحديات والرهانات التكنولوجية والعلمية التي يعرفها العالم، خاصة القدرة على إنجاز الخطط والتصاميم الاستراتيجية، وذلك من خلال مأسسة النسق المؤسساتي الدائم الضامن للارتباط الوثيق بين النظرية والواقع. إن حجم الأوراش الكبرى الاستثمارية في المجلات الاقتصادية والاجتماعية والتكنولوجية التي أطلقت زمن العهد الجديد تستوجب اليوم خلق الآليات لتقوية مكانة المهندس في كل المجالات الحيوية للبلاد: الأحزاب السياسية، والنقابات، والبرلمان، والحكومة، والجماعات الترابية، والقضاء، والإعلام.
لقد أثبتت التجربة مغربيا أن المهندس، بطبيعة تخصصه وخبرته التقنية العملية، يتواجد بقوة كرائد بتدخلاته التنموية في عمق الفعل العمومي على صعيد كل المستويات والمجالات المنتجة في القطاعين العام والخاص. إلا أن التركيبة المؤسساتية للأجهزة القيادية للمشاريع التنموية العمومية على صعيد التراب الوطني بتمويلاتها الوطنية والجهوية والإقليمية والمحلية، والتي تتداخل فيها تخصصات العلوم الإنسانية والعملية والهندسية وتأثيرات منطق إنتاج النخب، لم تُفْض منذ الاستقلال إلى النجاعة والمردودية المطلوبة التي أقرتها التجارب التي ترسخت في تاريخ الفعل العمومي في الدول المتقدمة (المعروفة بمردودية مشاريعها العالية وأمل حياتها (الديمومة) الطويل). العلاقة التنظيمية القانونية بين الفاعلين في مجالي المالية والمحاسبة (الآمرين بالصرف) والسلطات القيادية الدستورية والأجهزة الإدارية لم يترتب عنها ذلك الترابط المأمول بين الجانبين النظري والعملي. بقي المهندس في نفس الآن المحور الأساسي في التنمية الترابية والحلقة الضعيفة في النسق المؤسساتي المسؤول عن ضمان ديمومة التنسيق والتقييم للمنجزات. إذا استثنينا المشاريع التي يشرف عليها جلالة الملك بشكل مباشر، يمكن القول أنه شاع الانطباع في أذهان المرتفقين أن طبيعة المشاريع العمومية الترابية لم تكن يوما في منأى من الإصابة بداء تآكل المفاصل وتصلب شرايينها وضعف القيام بوظائفها المحددة مسبقا. الحصيلة تؤكد بجلاء عشوائية صفقات إنجاز الاستثمارات التجهيزية الترابية: تجهيزات ومنجزات غير مستغلة ومهجورة (فارغة) متروكة للتعرض للاهتراء، وأخرى مستعملة جزئيا أو ظرفيا، وأخرى ضعيفة المقاومة للشقوق والحفر، وعدد منها تم إنجازه فوق عقارات مهددة بالفيضانات، وكثير منها تم تشييدها في أماكن غير آمنة وبدون حراسة .....الخ. كما أبانت التجارب ضعف التنسيق بين القطاعات العمومية للرفع من نفعية وصلابة التجهيزات المنجزة إلى أعلى المستويات.
والحالة هاته، فإضافة إلى ضعف تحديد المقومات العلمية والتقنية الشاملة والدقيقة للمشاريع المجسدة في دفاتر التحملات، التي تغلب عليها بشكل واضح ولاعتبارات مبهمة المحددات الذاتية أكثر من الموضوعية العلمية، تبقى الهندسة في القطاع العام عاجزة إلى حد كبير عن تتبع التطورات العلمية النظرية العالمية بفعل ضعف التكوين المستمر ومحفزاته وغاياته. تتجدد التقنيات والآليات والقواعد والمناهج التدبيرية في الدول المتقدمة بسرعة فائقة ومربكة، لكن الممارسة الهندسية الوطنية تبقى في مجملها ملتصقة بتقنيات تفعيلية متجاوزة ومكلفة زمنيا وماليا.
في هذا السياق، لا بد من الإشارة إلى التميز الواضح الذي عبرت عنه المشاريع التنموية التي يشرف عليها القصر الملكي. لقد قدمت السلطة الملكية نموذجا راقيا للعلاقة البناءة لارتباط الهندسة بالمشاريع التنموية المهيكلة للتراب الوطني. إنه منطق قيادة حكيمة للمشاريع بشقيها المالي والمسطري. وعليه، فتمديد تفعيل المقاربات التدبيرية الملكية وتعميمها بشكل شامل وكلي على السياسات التنموية الحكومية يجب أن يتحول اليوم إلى أولوية الأولويات الاستراتيجية للدولة. لقد تمت البرهنة أن مستويات البلورة والإعداد والتنفيذ والتقييم وتتبع المردودية والصيانة يمكن أن تضمن تمديد النجاعة والشفافية من الأعلى إلى الأسفل، وبالتالي يمكن أن تتحول إلى مدرسة في العقلانية والحداثة التنموية. إنه السبيل الملائم مغربيا لترسيخ معاني التدبير التنموي الترابي من النواحي المالية والتقنية والقانونية من المحلي مرورا بالإقليمي والجهوي ووصولا إلى الوطني، وضمان جودة تنفيذ مضمون دفاتر التحملات بالضبط الدقيق للجوانب المالية والتقنية والقانونية، واحترام المراحل الزمنية للإنجاز، وملائمة المشاريع المسلمة رسميا لتصاميمها ومتطلبات وأهداف إنجازها المحددة مسبقا.
استحضارا لما سبق، نستنتج أن قيادة المشروع التنموي القطاعي، الهندسي بطبيعته، لا يمكن قيادته وتحقيق الجودة في تنفيذه إلا من طرف المهندس المدعوم بفريق إداري وقانوني ومالي. لقد عاش المغرب في مطلع الألفية الثالثة تجربة مؤسسة العامل المهندس التي اقترحها وسهر على انتقاء مواردها البشرية التي يزخر بها القطاع الهندسي المستشار الملكي مزيان بلفقيه رحمه الله. لقد لاقت هاته التجربة نوعا من الإجماع نظرا لوقعها الإيجابي على الصعيد الوطني. لقد أبرزت أن المهندس القيادي والسياسي له قدرة هائلة على تشخيص الأوضاع وتنويع معارفه القانونية والإدارية والمالية والتدبيرية بالسرعة المطلوبة. لقد تم اعتماد التخطيط الترابي والدقة في إعداد التصاميم الهندسية في التنمية القروية وتأهيل المدن.
إن قدرة المهندس على تملك المعارف وفهم وتتبع التطورات التقنية، وكفاءته في تحويل النظريات العلمية إلى تصاميم تفعيلية وتنزيلها ترابيا، وذكائه في فهم وتأويل القوانين في مختلف المجالات، وخبرته في قيادة التغيير، وإلمامه بأنماط التدبير العصرية، وكونه الفاعل المحوري في الفعل التنموي، تفرض اليوم تعميق التفكير في تجديد بنيات الأجهزة المؤسساتية لتفعيل المشاريع التنموية بتحويله إلى سلطة فعلية لقيادتها وتنفيذها في إطار نسق واضح المعالم تلعب فيه مؤسسات الحكامة والرقابة دورا رياديا مستمرا.
إن أول من اعترف سياسيا بالأدوار الريادية التي لعبها أو يلعبها أو يمكن أن يلعبها المهندس في التنمية المجالية وتهيئة التراب الوطني هو الأستاذ عبد الرحمان اليوسفي رحمه الله. فإضافة إلى الفرحة التي أدخلها على قلوب الموظفين العموميين بتنفيذه مخرجات الحوار الاجتماعي الاستثنائي في تاريخ الحكومات المغربية، وتدبيره الرفيع للورش الحقوقي للمصالحة السياسية، أصر قائد حكومة التناوب التوافقي بالإمكانيات المالية المتوفرة لديه على إعادة الاعتبار للمهندس كمحور أساسي في تهيئة وتعمير تراب البلاد، بحيث فتح حوارا بناء وجادا مع ممثلي القطاع توج بإعادة الاعتبار للقانون الأساسي للمهندسين. لقد انشغل اليوسفي مطولا بالعلاقة السلسة بين التطورات العلمية النظرية وسرعة ربطها بالواقع المعاش للشعوب المتقدمة، وحرص بكل وزنه السياسي على خلق الآليات المؤسساتية والقانونية الضرورية لمعانقة التقليد التاريخي لمسار توطيد العلاقة بين الكشوفات العلمية وترسيخ مزاياها ومنافعها في الواقع.
أما اليوم، فأمام الثورة العلمية والتكنولوجية الخارقة التي ميزت العقود الأولى من الألفية الثالثة وما أحدثته من تحولات مدوخة ومغرية في العالم في كل المجالات، وتجنبا للحد من نزيف هجرة العقول الهندسية إلى الخارج، يبقى من واجب الدولة اليوم الانكباب الفوري لبلورة مخطط استعجالي لتقوية المعرفة الهندسية في الفعل العمومي، وبالتالي الرفع من جودة انتقاء المشاريع التنموية حسب الأولوية، ومضاعفة منافعها وتعظيم قيمة المصالح العامة المقدمة، وبالتالي تحقيق تصاعد دائم في نسب النمو السنوية والحد من التأثيرات المناخية السلبية والحد من المخاطر السياسية والحقوقية المرتبطة بها.