أجدور عبد اللطيف
حلّت إذن هذه الأيام المرتقبة بين المسلمين، بحنين، أيام وسمها الخطاب القرآني البليغ بتعبير "أياما معدودات" كناية عن تفلّتها وسرعة انصرامها، وإن كانت تمر مرور الخبر، إلا أنها غزيرة العطايا والأثر.
بيّنٌ أن الأنام متباينون في تعاطيهم مع الشعائر الدينية، تبعا للتنشئة الإجتماعية، والخلفية الإيديولوجية، والمحيط، بيْنَ من يُكسبون بعضها مسحة من الخرافة والدجل، نستحضر هنا بعض الطقوس الشعوذاتية المرافقة للية القدر مثلا.. تُعضّدهم في ذلك بعض الروايات الجانحة التي تحوم حول معانيها علائم الإستفهام، وحول خيوط تواترها إلينا كذلك، وإن جاز الإعتداد ببعضها موعظةً ما دامت لا تخالف عقيدة ولا مقاصد الإسلام - على قول بعض الفقهاء -، بيد أنه يجب الإنتباه إلى خطر نسبها للرسول الكريم يقيناً.
الصِنْو الثاني من الناس، هم على النقيض المتطرف الآخر، يرون هذا الشهر مجرد تقليد متوارث، نزّ في لحظةٍ وسار على نهجه السائرون، إذ إن صيام الأُوَّل من المسلمين لم يكن قط على شاكلة صيامنا اليوم، بعيدا تماما عن الشره الاستهلاكي، والطابه المهرجاناتي الذي يصاحب الصيام على شاشات التلفاز، وفي دور العرض والسينما، والكازينوهات، ودور القمار ومقاهي النرجيلة، وفي دوريات كرة القدم والكرة الحديدية وغيرها...
في توجه مناقض تماما لما شُرع له من زهد وتقلل وتخفف، وانصراف عن المُلهيات وإن كانت مباحة، والدخول في حالة روحية أشبه ما تكون بعزلة صوفية لتهذيب النفس وفرملة الغرائز وتطويع النوازع البهيمية فينا..
إن الأنثربولوجيا بدورها تقر بدور التقاليد في تطبيع الشعائر والطقوس الدينية هذه الطبائع، شأنَ الفرنسي كلود ريفيير الذي يقول: «الشعيرة عبارة عن مجموعة من الأفعال المتكررة والمقننة التي تحظى غالباً بالاحترام، ولها نظام تأدية شفهي أو حركي، ومحملة بالرّمزية، وقائمة على الإيمان بالقوة الفعالة للقدرة العليا التي يحاول الإنسان أن يتصل بها بغرض الحصول على نتيجة مرجوة».
إن العقل الجمعي حريص على الوفاء للتقليد، دون حفظ المقاصد الأولى للنسك بالضرورة.. ومع ذلك كله، لا يسوّغ شيء، الطعن في صحة عبادة من يتسمون بهذا الإقبال الجماهيري على لصوص رمضان التي ذكرنا.
ومن الناس، من يُمعن في انتقاد الكثير من ممارسات وبروباغندا رمضان، تحت غطاء ديني، ويرى أن هذا الركن أضحى مجرد موسم اقتصادي يقف خلفه أرباب النقل العمومي وتجار الألبسة والأطعمة والسيارات والأبخرة والعطور والأواني والفضائيات والمسلسلات والجولات الكوميدية والغنائية.. يشمل ذلك كل تجار الدين الجدد بمختلف أصنافهم وبضائعهم.
كما يجب التنبيه إلى ما ينجرّ إليه الكثيرون، من السباق المظهري المحموم في إظهار الغنى و"التفوق" الإجتماعي بلباس أو مركب أو مطعم، ما يجعل المسحوقين بين مطرقة مجاراتهم في غير مقدرة، فيكلفهم ذلك من دمهم وراحتهم، أو الإسلام للوضع في دونية وذلة.. وما يوجع أكثر هو وقوع نفسيات الأطفال ضحية لهذه اللعبة الاستهلاكية القذرة التي يؤججها التجار، بما فيهم الأيتام والأرامل والمعوزون.
إن مزامنة هذه الممارسات مع شهر ثمين يأتي مرة كل سنة لشيء مؤسف، يستدعي هذه الموجة التشنيعية التي تتعالى كل سنة، على ألا ننسى، أن هذه المناسبات تنطوي على بعض خصوصياتنا التي تتصل بماضينا كمغاربة ومسلمين، وهي من مقومات وجودنا الحضاري الذي يستحسنه غيرنا من أهل العقائد والملل، ما يعني أن هناك بعدا مصحوبا بالعديد من القيم التي حث عليها الإسلام، لا ينبغي الاستغناء عنها، مثل صلة الرحم، والتكافل، ومد جسور المحبة والنصح، وإظهار الفرحة وإشاعة مظاهر السرور في إقساط.
إن قطعنا مع الممارسات الشاذة التي أصبحت تغلب على رمضان مما ذكرنا، لا يعني بحال انسلاخنا من كل ما يكوّن نوستالجيانا الجميلة التي نحِنّ إليها كل حين من التبسط للأهل والأصدقاء والاجتماع بهم، والاستمتاع بزكي العطور والأبخرة وشهي الأطعمة، وتعاطي شجن السماع الأندلسي، والتماهي مع خشوع المصلين في المصليات ووحدتهم، وزهو الحنّاء في الأكف والأقدام، وغبطة اللقاء بعد طول فراق تستلزمه شروط الحياة المتعبة.
يخاطبنا القرآن أيها الأحبة: "ومن يعظم شعائر الله فإن ذلك من تقوى القلوب"، ملتمسا منا تعظيم رمضان وغيره من الشعائر، بإعمارها صلاة وصياما وقياما، وإلحاق مستلزماتهما بها من رحمة وحسنى وإيثار وعطف وتقاسم وبذل.
وكل عام وأنتم بخير ومحبات.