نور الدين الطويليع
لم يملك صحفي القناة الثانية وهو ينتقل بين أحياء مدينة اليوسفية للاستماع إلى آراء مرضى القصور الكلوي ومعاناتهم جراء عجز مركز تصفية الدم عن استقبالهم، في إطار إعداد روبورطاج للقناة بهذا الصدد، لم يملك هذا الصحفي، وقد أذهله مرض المدينة المزمن بداء فقدان التنمية، إلا القول بأن حالة مدينة اليوسفية يشبه حال مرضاها في توصيف دقيق يجعل الطرفين (المشبه والمشبه به) في وضع تخلف عن الحياة وانتظار ساعة توقف نبض القلب في كل لحظة وحين، توصيف استدعى من خلاله، بشكل ذكي، مفهوم الاستعارة المكانية التي يشير من خلالها الناقد جيرار جنيت إلى امتزاج المكان والشخصيات وذوبانهما في بعضهما البعض، وإحالة كل منهما على الآخر، كما هو حال مدينة اليوسفية وسكانها.
أعتقد جازما أن الرجل صفعته صدمة واقع يوسفي غارق في الفوضى، تنطق كل مظاهره بالبؤس والشقاء، واقع فقدت من خلاله المدينة كل مقومات الحياة، واستحالت كيانا فارغا يئن تحت وطأة التهميش والإقصاء الممزوجين بمؤامرة أبناء لم يعد يهمهم من أمرها إلا التملي بمعاناتها الصامتة والناطقة ووقف النفس على استنزافها بشتى الطرق والأساليب.
فعلا شهد شاهد من أهلها، والشهادة هنا جاءت من قناة تنتمي إلى القطب العمومي، ولا يمكن أن ترمى بدورها بتهمة التحامل على البلد وعلى مدنه، ولا يمكن أن يقال لها "فرقت بين بني المغرب" في هذه النقطة بالذات، وشهادتها هذه بمثابة نعي رسمي لمدينة احتضرت طويلا، وحاولوا أن يوهمونا بأنها بخير، وأنها مدينة المشاريع الكبرى، وأنها النسخة الثانية للفردوس المفقود، لغاية في أنفسهم لا يعلمها إلا الراسخون في عالم الأعمال والصفقات والعلاقات المشبوهة، الذين يجتمعون في الخفاء على جسدها المتهالك الذي نخرته ديدان سنوات الإهمال العجاف، ولم تبق منه إلا عظاما كسيحة نخرة ، ثم يخرجون علينا، وقد امتلأت بطونهم بأشيائها، بوجه غير وجههم الحقيقي ليلقوا إلينا سلام عافيتها وانتعاشها، وينشروا في الملإ جهودهم لإيقافها على رجليها، طالبين بعض الصبر وقليلا من الانتظار لرؤيتها في أحلى حلة، في مسعى منهم لاستمرار مفعول تخديرنا وزرع الوهم في أنفسنا عن مستقبل لن يأتي إلا بالمأساة، وهاهي نذره تلوح في الأفق مع هذه الخرجة "الدوزيمية"
كنت أظنني، قبل أن تقول القناة الثانية كلمتها، رهين المحبسين: التشاؤم والنظرة السوداوية، حينما سميتها "يتيمة المدائن"، واعتورني أكثر من مرة الشك في إصابة عيني بمرض عمى الألوان، وعجزهما عن التقاء الفسيفساء التي يتحدثون عنها، خصوصا أنهم اتهموني بهكذا أوصاف، وهم يلقون علي بلائمة العجز عن إدراك ما أضفوه عليها من جمال يأخذ بالألباب، ووجدتني أركن إلى اتهاماتهم في نهاية المطاف، إلى درجة أنني صرت أتمثل هذا البيت للمتنبي صباح مساء: ومن يكن ذا فم مر مرير...... يجد مرا به الماء الزلالا.
اتهمت نفسي، سامحني الله، بالعجز عن تذوق زلال مدينتي، و حاولت عبثا أن أرى مثل ما يوهمون الناس أنهم يرون، دون جدوى، إلى أن استقر بي الأمر، أمام هذا التنافر الحاصل بيني وبينهم، أن أنرك لهم تفاؤلهم، دون أن أشوش عليه، وأحتفظ أنا بتشاؤمي لنفسي، دون أن أعدي به أحدا، من منطلق "لكم دينكم ولي دين"، لكن وقد جاء التشاؤم والعدمية بصيغة رسمية، وهم لم يردوا إلا بالطأطأة، سأقول لهم كفى متاجرة بواقع مدينتكم، وخير لكم وقد عجزتم عن إسعافها، أن تتركوها تحتضر، وتتركونا نحتضر معها، في صمت ودون ضوضاء.